التفاسير

< >
عرض

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ
٣٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
٣٧
وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ
٣٨

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } أي كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة هم أشدّ منهم بطشاً وقوّة. { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } أي ساروا فيها طلباً للمهرب. وقيل: أثّرُوا في البلاد؛ قاله ٱبن عباس. وقال مجاهد: ضربوا وطافوا. وقال النضر بن شميل: دَوَّروا.. وقال قتادة: طَوَّفوا. وقال المؤرِّج تباعدوا؛ ومنه قول ٱمرىء القيس:

وقد نَقَّبْتُ في الآفاق حَتَّىرَضِيتُ من الغنيمةِ بالإيابِ

ثم قيل: طافوا في أقاصي البلاد طلباً للتجارات، وهل وجدوا من الموت محيصاً؟ وقيل: طوّفوا في البلاد يلتمسون مَحيصاً من الموت. وقال الحرث بن حِلَّزة:

نَقَّبُوا في البلادِ من حَذَرِ الموتِ وجَالُوا في الأرضِ كُلَّ مَجَالِ

وقرأ الحسن وأبو العالية «فَنَقَبُوا» بفتح القاف وتخفيفها. والنقب هو الخرق والدخول في الشيء. وقيل: النقب الطريق في الجبل، وكذلك الْمَنْقَب والْمَنْقَبَة؛ عن ٱبن السكيت. ونَقَب الجدار نَقْباً، وٱسم تلك النَّقْبة نَقْب أيضاً، وجمع النَّقْب النُّقُوب؛ أي خرقوا البلاد وساروا في نقوبها. وقيل: أَثَّرُوا فيها كتأثير الحديد فيما ينقب. وقرأ السُّلَمي ويحيـى بن يَعْمَر «فَنَقِّبُوا» بكسر القاف والتشديد على الأمر بالتهديد والوعيد؛ أي طَوِّفوا البلاد وسيروا فيها فٱنظروا { هَلْ مِن }الموت { مَّحِيصٍ } ومهرب؛ ذكره الثعلبي. وحكى القشيريّ «فَنَقِبُوا» بكسر القاف مع التخفيف؛ أي أكثروا السير فيها حتى نَقِبت دوابُّهم. الجوهري: ونَقِب البعيرُ بالكسر إذا رَقّت أخفافُه، وأنقب الرجلُ إذا نَقِب بعيرُه، ونَقِب الخفُّ الملبوس أي تخرّق. والمحِيص مصدر حاص عنه يَحِيص حَيْصاً وحُيوصاً ومَحِيصاً ومَحاصاً وحَيَصاناً؛ أي عَدلَ وحادَ. يقال: ما عنه مَحِيص أي مَحِيد ومَهْرَب. والانحياص مثله؛ يقال للأولياء: حاصوا عن العدوّ وللأعداء ٱنهزموا. قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ } أي فيما ذكرناه في هذه السورة تذكرة وموعظة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي عقل يتدبر به؛ فكنى بالقلب عن العقل لأنه موضعه؛ قال معناه مجاهد وغيره. وقيل: لمن كان له حياة ونفس مميزة، فعبر عن النفس الحية بالقلب؛ لأنه وطنها ومعدن حياتها؛ كما قال ٱمرؤ القيس:

أَغَرَّكِ منِّي أَنَّ حُبَّكِ قاتِليوَأَنَّكِ مَهْمَا تَأْمُرِي الْقَلْبَ يَفْعَلِ

وفي التنزيل: { { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } [يس: 70]. وقال يحيـى بن معاذ: القلب قلبان؛ قلب محتشٍ بأشغال الدنيا حتى إذا حضر أمر من الأمور الآخرة لم يدر ما يصنع، وقلب قد ٱحتشى بأهوال الآخرة حتى إذا حضر أمر من أمور الدنيا لم يدر ما يصنع لذهاب قلبه في الآخرة. { أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ } أي ٱستمع القرآن. تقول العرب: ألق إليّ سمعك أي ٱستمع. وقد مضى في «طه» كيفية الاستماع وثمرته. { وَهُوَ شَهِيدٌ } أي شاهد القلب؛ قال الزجاج: أي قلبه حاضر فيما يسمع. وقال سفيان: أي لا يكون حاضراً وقلبه غائب. ثم قيل: الآية لأهل الكتاب؛ قاله مجاهد وقتادة. وقال الحسن: إنها في اليهود والنصارى خاصة. وقال محمد بن كعب وأبو صالح: إنها في أهل القرآن خاصة.

قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } تقدّم في «الأعراف» وغيرها. واللغوب التعب والإعياء، تقول منه: لَغَب يَلْغُب بالضم لُغُوباً، ولَغِب بالكسر يَلْغَب لُغُوباً لغة ضعيفة فيه. وألغبته أنا أي أنصبته. قال قتادة والكلبي: هذه الآية نزلت في يهود المدينة؛ زعموا أن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، أوّلها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، وٱستراح يوم السبت؛ فجعلوه راحة، فأكذبهم الله تعالى في ذلك.