التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ
٧
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ
٨
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
٩
قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ
١٠
ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ
١١
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ
١٢
يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ
١٣
ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
١٤
-الذاريات

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ } قيل: المراد بالسماء هاهنا السُّحُب التي تظل الأرض. وقيل: السماء المرفوعة. ٱبن عمر: هي السماء السابعة؛ ذكره المهدوي والثعلبي والماوردي وغيرهم. وفي «الْحُبُكِ» أقوال سبعة: الأول ـ قال ٱبن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: ذات الخَلق الحسن المستوي. وقاله عكرمة؛ قال: ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه؛ يقال منه حَبَك الثوبَ يَحبِكُه بالكسر حَبْكاً أي أجاد نسجه. قال ٱبن الأعرابي: كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد ٱحتبكته. والثاني ـ ذات الزينة؛ قاله الحسن وسعيد بن جبير، وعن الحسن أيضاً: ذات النجوم وهو الثالث. الرابع ـ قال الضحاك: ذات الطرائق؛ يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حُبُك. ونحوه قول الفراء؛ قال: الحُبُك تَكسُّر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، ودرع الحديد لها حُبُك، والشعرة الجَعْدة تكسّرها حُبُك. وفي حديث الدجَّال. إنّ شعره حُبُك. قال زهير:

مُكَلَّلٌ بأصولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُرِيحٌ خَرِيقٌ لِضاحِي مائهِ حُبُكُ

ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها. الخامس ـ ذات الشدة، قاله ٱبن زيد، وقرأ { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً }. والمحبوك الشديد الخَلْق من الفرس وغيره، قال ٱمرؤ القيس:

قد غَدَا يَحْمِلُني في أنْفِهِلاَحِقُ الإطْلَيْنِ مَحْبُوكٌ مُمَرْ

وقال آخر:

مَرِجَ الدِّينَ فأَعددتُ لَهُمُشْرِفَ الحارِكِ مَحْبُوك الْكَتَدْ

وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدِّرْع في الصلاة؛ أي تشدّ الإزار وتحكمه. السادس ـ ذات الصفّاقة؛ قاله خَصِيف، ومنه ثوب صفِيق ووجه صفيق بين الصفاقة. السابع ـ أن المراد بالطرق المَجرّة التي في السماء؛ سميت بذلك لأنها كأثر المَجَرّ. و«الْحُبُك» جمع حِباك، قال الراجز:

كأنّما جَلَّلها الْحُوَّاكُطنفسة في وَشْيها حِبَاكُ

والحبَاك والحَبِيكة الطريقة في الرّمل ونحوه. وجمع الحِبَاك حُبُك وجمع الحَبِيكة حَبَائك، والْحَبَكَة مثل العَبَكة وهي الحبّة من السويق، عن الجوهري. وروي عن الحسن في قوله: «ذَاتِ الْحُبُكِ» «الْحُبْكِ» و«الحِبِكِ» و«الحِبْكِ». و«الحِبَك والحِبُك (وقرأ أيضاً «الْحُبُك») كالجماعة. وروي عن عِكْرمة وأبي مِجْلَز «الحُبك». و«الحُبُك» واحدتها حَبيكة؛ «والْحبُكْ» مخفّف منه. و«الحِبَك» واحدتها حِبْكة. ومن قرأ «الْحُبَكِ» فالواحدة حُبْكَة كبُرقة وبُرَق أو حُبُكة كظُلُمة وظُلَم. ومن قرأ «الحِبكِ» فهو كإبلِ وإِطِل و«الحِبْك» مخففة منه. ومن قرأ «الحِبُك» فهو شاذ إذ ليس في كلام العرب فِعُلٌ، وهو محمول على تداخل اللغات، كأنه كسر الحاء ليكسر الباء ثم تصوّر «الْحُبُك» فضم الباء. وقال جميعه المهدوي.

قوله تعالى: { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } هذا جواب القسم الذي هو «والسَّمَاءِ» أي إنكم يا أهل مكة «فِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» في محمد والقرآن فمن مصدّق ومكذّب. وقيل: نزلت في المقتسمين. وقيل: ٱختلافهم قولهم ساحر بل شاعر بل ٱفتراه بل هو مجنون بل هو كاهن بل هو أساطير الأوّلين. وقيل: ٱختلافهم أن منهم من نفى الحشر ومنهم من شك فيه. وقيل: المراد عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره.

قوله تعالى: { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي يصرف عن الإيمان بمحمد والقرآن من صُرِف؛ عن الحسن وغيره. وقيل: المعنى يُصرَف عن الإيمان من أراده بقولهم هو سحر وكهانة وأساطير الأوّلين. وقيل: المعنى يُصرَف عن ذلك الاختلاف مَن عصمه الله. أَفَكَه يَأْفِكُه أَفْكاً أي قلبه وصرفه عن الشيء؛ ومنه قوله تعالى: { { أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } [الأحقاف: 22]. وقال مجاهد: معنى «يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ» يُؤفَن عنه من أُفِن، والأَفْنَ فساد العقل. الزمخشري: وقرىء «يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أُفِنَ» أي يحرمه من حرم؛ من أَفَن الضَّرْعَ إذا أنكهه حَلْباً. وقال قُطْرُب: يُخدَع عنه من خُدِع. وقال اليزيدي: يُدفَع عنه من دُفِع. والمعنى واحد وكله راجع إلى معنى الصرف.

قوله تعالى: { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } في التفسير: لُعِن الكذّابون. وقال ٱبن عباس: أي قُتِل المرتابون؛ يعني الكهنة. وقال الحسن: هم الذين يقولون لسنا نبعث. ومعنى «قُتِلَ» أي هؤلاء ممن يجب أن يدعى عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين. وقال الفرّاء: معنى «قُتِلَ» لُعِن؛ قال: و«الْخَرَّاصُونَ» الكذابون الذين يتخرّصون بما لا يعلمون؛ فيقولون: إن محمداً مجنون كذّاب ساحر شاعر؛ وهذا دعاء عليهم؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال ٱبن الأنباري: علّمنا الدعاء عليهم؛ أي قولوا: { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } وهو جمع خارص والْخَرْص الكذب والْخَرَّاص الكذّاب، وقد خَرَص يَخْرُص بالضم خَرْصا أي كَذَب؛ يقال: خَرَص وٱخْتَرص، وخَلَقَ وٱختلقَ، وبَشَك وٱبْتَشك، وسَرَج وٱسْتَرج، ومان، بمعنى كذب، حكاه النحاس. والْخَرْص أيضاً حَزْر ما على النخل من الرطب تمراً. وقد خَرَصتُ النخلَ والاسم الخِرْص بالكسر؛ يقال: كم خِرْص نخلك والخرّاص الذي يخرصها فهو مشترك. وأصل الخُرْص القطع على ما تقدّم بيانه في «الأنعام» ومنه الْخَرِيص للخليج؛ لأنه ينقطع إليه الماء، والخُرِصُ حبّة القُرْط إذا كانت منفردة؛ لانقطاعها عن أخواتها، والخُرْص العود؛ لانقطاعه عن نظائره بطيب رائحته. والْخَرِص الذي به جوع وبَرْد لأنه ينقطع به، يقال: خَرِص الرجلُ بالكسر فهو خَرِص، أي جائع مقرور، ولا يقال للجوع بلا برد خَرَص. ويقال للبرد بلا جوع خَرَص. والْخُرْص بالضم والكسر الحلقة من الذهب أو الفضة والجمع الخِرْصان. ويدخل في الْخَرْص قول المنجمين وكل من يدّعي الحَدْس والتخمين. وقال ٱبن عباس: هم المقتسمون الذين ٱقتسموا أعقاب مكة، وٱقتسموا القول في نبيّ الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصرفوا الناس عن الإيمان به.

قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } الغمرة ما ستر الشيء وغطّاه. ومنه نهر غَمْر أي يغْمُر من دخله، ومن غَمَرات الموت. «سَاهُونَ» أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة.

قوله تعالى: { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدِّينِ } أي متى يوم الحساب؛ يقولون ذلك ٱستهزاءً وشَكًّا في القيامة. { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } نصب «يَوْم» على تقدير الجزاء أي هذا الجزاء «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» أي يُحرَقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب أي أحرقته لتختبره؛ وأصل الفتنة الاختبار. وقيل: إنه مبنيّ بني لإضافته إلى غير متمكن، وموضعه نصب على التقدير المتقدّم، أو رفع على البدل من { يَوْمُ ٱلدِّينِ }. وقال الزجاج: يقول يعجبني يومُ أنت قائم ويومُ أنت تقوم، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع، فإنما ٱنتصب هذا وهو في المعنى رفع. وقال ٱبن عباس: { يُفْتَنُونَ } يُعذَّبون. ومنه قول الشاعر:

كلُّ ٱمرِىءٍ من عبادِ اللَّهِ مُضطَهدٌبِبطنِ مكةَ مقهورٌ ومفتونُ

قوله تعالى: { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } أي يقال لهم ذوقوا عذابكم؛ قاله ٱبن زيد. مجاهد: حريقكم. ٱبن عباس: أي تكذيبكم يعني جزاءكم. الفرّاء: أي عذابكم { ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } في الدنيا. وقال: «هَذَا» ولم يقل هذه؛ لأن الفتنة هنا بمعنى العذاب.