التفاسير

< >
عرض

كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
١٧
وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
١٨
وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ
١٩
-الذاريات

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } معنى «يَهْجَعُونَ» ينامون؛ والهجوع النوم ليلاً، والتَّهْجاع النومة الخفيفة؛ قال أبو قيس بن الأَسْلَت:

قد حصَّتِ البيضةُ رأسي فَمَاأَطْعَمُ نَوْماً غيرَ تَهْجاعِ

وقال عمرو بن مَعْدي كرِب يتشوّق أخته وكان أسرها الصِّمَّة أبو دُرَيد بن الصِّمَّة:

أَمِنْ رَيْحَانة الدَّاعِي السَّميعُيُؤَرِّقُنِي وأَصحابي هُجوعُ

يقال: هَجَعَ يَهْجَع هُجوعاً، وهَبَغَ يَهْبَغُ هُبوغاً بالغين المعجمة إذا نام؛ قاله الجوهري. وٱختلف في «ما» فقيل: صلة زائدة ـ قاله إبراهيم النخعي ـ والتقدير كانوا قليلاً من الليل يهجعون؛ أي ينامون قليلاً من الليل ويصلّون أكثره. قال عطاء: وهذا لما أمروا بقيام الليل. وكان أبو ذرّ يحتجِز ويأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً } الآية. وقيل: ليس «ما» صلة بل الوقف عند قوله: «قَلِيلاً» ثم يبتدىء { مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } فـ«ـما» للنفي وهو نفي النوم عنهم البَتّةَ. قال الحسن: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نَشِطوا فجدّوا إلى السحر. روي عن يعقوب الحضرمي أنه قال: ٱختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم: «كَانُوا قَلِيلاً» معناه كان عددهم يسيراً ثم ٱبتدأ فقال: { مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } على معنى من الليل يهجعون؛ قال ٱبن الأنباري: وهذا فاسد؛ لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم، وبعد فلوا ٱبتدأنا «مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ» على معنى من الليل يهجعون لم يكن في هذا مدح لهم؛ لأن الناس كلهم يهجعون من الليل إلا أن تكون «ما» جَحْداً.

قلت: وعلى ما تأوّله بعض الناس ـ وهو قول الضحاك ـ من أن عددهم كان يسيراً يكون الكلام متصلاً بما قبل من قوله: { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } أي كان المحسنون قليلاً، ثم ٱستأنف فقال: { مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } وعلى التأويل الأوّل والثاني يكون «كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ» خطاباً مستأنفاً بعد تمام ما تقدّمه ويكون الوقف على «مَا يَهْجَعُونَ»، وكذلك إن جعلت «قَلِيلاً» خبر كان وترفع «ما» بقليل؛ كأنه قال: كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. فـ«ـما» يجوز أن تكون نافية، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدراً، ويجوز أن تكون رفعاً على البدل من ٱسم كان، التقدير كان هجوعهم قليلاً من الليل، وٱنتصاب قوله: «قَلِيلاً» إن قدرت «ما» زائدة مؤكدة بـ«ـيَهْجَعُونَ» على تقدير كانوا وقتاً قليلاً أو هجوعاً قليلاً يهجعون، وإن لم تقدر «ما» زائدة كان قوله: «قَلِيلاً» خبر كان ولم يجز نصبه بـ«ـيَهْجَعُونَ»؛ لأنه إذا قدر نصبه بـ«ـيَهْجَعُونَ» مع تقدير «ما» مصدراً قدمت الصلة على الموصول. وقال أنس وقتادة في تأويل الآية: أي كانوا يصلّون بين العشاين: المغرب والعشاء. أبو العالية: كانوا لا ينامون بين العشاءين. وقاله ٱبن وهب. وقال مجاهد: نزلت في الأنصار كانوا يصلون العشاءين في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم يمضون إلى قُباء. وقال محمد بن علي بن الحسين: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العَتَمة. قال الحسن: كأنه عَدَّ هجوعهم قليلاً في جنب يقظتهم للصلاة. وقال ٱبن عباس ومُطرِّف: قَلّ ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلّون لله فيها إما من أوّلها وإما من وسطها.

الثانية: روي عن بعض المتهجدين أنه أتاه آتٍ في منامه فأنشده:

وكيف تنامُ الليلَ عينٌ قريرةٌولم تَدرِ في أيّ المجالِسِ تنزِلُ

وروي عن رجل من الأزد أنه قال: كنت لا أنام الليل فنمت في آخر الليل، فإذا أنا بشابين أحسن ما رأيت ومعهما حُلَل، فوقفا على كل مصلّ وكسواه حلّة، ثم ٱنتهيا إلى النيام فلم يكسوهم، فقلت لهما: ٱكسواني من حُللكما هذه؛ فقالا لي: إنها ليست حُلّة لباس إنما هي رضوان الله يحلّ على كل مصلّ. ويروى عن أبي خَلاّد أنه قال: حدّثني صاحب لي قال: فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ مُثِّلت لي القيامة، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم، وأشرقت ألوانهم، وعليهم الحلل من دون الخلائق، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون والناس عُراة، ووجوههم مشرقة ووجوه الناس مغبرة! فقال لي قائل: الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلّون بين الأذان والإقامة، والذين وجوههم مشرقة فأصحاب السهر والتهجد، قال: ورأيت أقواماً على نجائب فقلت: ما بال هؤلاء ركباناً والناس مشاة حفاة؟ فقال لي: هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقرّبا لله تعالى فأعطاهم الله بذلك خير الثواب؛ قال: فصِحت في منامي: واهاً للعابدين، ما أشرف مقامهم! ثم ٱستيقظت من منامي وأنا خائف.

الثالثة ـ قوله تعالى: { وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } مدح ثان؛ أي يستغفرون من ذنوبهم، قاله الحسن. والسَّحَر وقت يرجى فيه إجابة الدعاء. وقد مضى في «آل عمران» القول فيه. وقال ٱبن عمر ومجاهد: أي يصلّون وقت السَّحَر فسمّوا الصلاة ٱستغفاراً. وقال الحسن في قوله تعالى: { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } مدّوا الصلاة من أوّل الليل إلى السحر ثم استغفروا في السحر. ٱبن وهب: هي في الأنصار؛ يعني أنهم كانوا يغدون من قُباء فيصلون في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم. ٱبن وهب عن ٱبن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قالوا: كانوا يَنْضَحون لِنَاسٍ من الأنصار بالدلاء على الثمار ثم يهجعون قليلاً، ثم يصلّون آخر الليل. الضحاك: صلاة الفجر. قال الأحنف بن قيس: عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بَوْناً بعيداً لا نبلغ أعمالهم «كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ» وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم، يكذبون بكتاب الله وبرسوله وبالبعث بعد الموت، فوجدنا خيرنا منزلة قوماً خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.

الرابعة ـ قوله تعالى: { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } مدح ثالث. قال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة. وقيل: إنه حقّ سوى الزكاة يصل به رَحِماً، أو يَقري به ضيفاً، أو يحمل به كَلاًّ، أو يغني محروماً. وقاله ٱبن عباس؛ لأن السورة مكية وفرضت الزكاة بالمدينة. ٱبن العربي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة؛ لقوله تعالى في سورة «سأل سائل»: { وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } والحق المعلوم هو الزكاة التي بيّن الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم؛ لأنه غير مقدّر ولا مجنّس ولا موقّت.

الخامسة ـ قوله تعالى: { لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } السائل الذي يسأل الناس لفاقته؛ قاله ٱبن عباس وسعيد بن المسيّب وغيرهما. «وَالْمَحْرُومِ» الذي حُرم المالَ. وٱختلف في تعيينه؛ فقال ٱبن عباس وسعيد بن المسيّب وغيرهما: المحروم المُحارَف الذي ليس له في الإسلام سهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: المحروم المُحارَف الذي لا يتيسر له مكسبه؛ يقال: رجل مُحارَف بفتح الراء أي محدود محروم، وهو خلاف قولك مُبارَك. وقد حورف كسبُ فلان إذا شُدِّد عليه في معاشه كأنه مِيلَ برزقه عنه. وقال قتادة والزهري: المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئاً ولا يُعلِم بحاجته. وقال الحسن ومحمد بن الحنفية: المحروم الذي يجيء بعد الغنيمة وليس له فيها سهم. روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث سَرِيّة فأصابوا وغنموا فجاء قوم بعدما فرغوا فنزلت هذه الآية { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ }. وقال عِكرمة: المحروم الذي لا يبقى له مال. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته. وقال القُرَظيّ: المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا: { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } وقال أبو قِلابة: كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله، فقال رجل من أصحابه: هذا المحروم فأقسموا له. وقيل: إنه الذي يطلب الدنيا وتُدبِر عنه. وهو يروى عن ٱبن عباس أيضاً. وقال عبد الرحمن بن حميد: المحروم المملوك. وقيل: إنه الكلب؛ روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة، فجاء كلب فانتزع عمررحمه الله كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم. وقيل: إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي الأنساب؛ لأنه قد حُرِم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره. وروى ٱبن وهب عن مالك: أنه الذي يحرم الرزق، وهذا قول حسن؛ لأنه يعم جميع الأقوال. وقال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ ٱحتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ. رواه شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي. وأصله في اللغة الممنوع؛ من الحرمان وهو المنع. قال علقمة:

ومُطْعَمُ الغُنْمِ يومَ الغُنْم مُطْعَمُهُأَنَّى تَوَجَّه والمحرومُ محرومُ

وعن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ويلٌ للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لأقربنكم ولأبعدنهم ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ }" ذكره الثعلبي.