التفاسير

< >
عرض

وَٱلطُّورِ
١
وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ
٢
فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ
٣
وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ
٤
وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ
٥
وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ
٦
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ
٧
مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ
٨
-الطور

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱلطُّورِ } الطور ٱسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى؛ أقسم الله به تشريفاً له وتكريماً وتذكيراً لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة. وروى إسماعيل بن إسحٰق قال: حدّثنا إسماعيل ابن أبي أويس، قال: حدّثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جدّه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة أجبل من جبال الجنة وأربعة أنهار من أنهار الجنة وأربعة مَلاَحم من مَلاَحم الجنة" قيل: فما الأجبل؟ قال: "جبل أُحُد يحبنا ونحبه والطُّور جبل من جبال الجنة ولُبْنان جبل من جبال الجنة والجودي جبل من جبال الجنة" وذكر الحديث، وقد استوفيناه في كتاب «التذكرة». قال مجاهد: الطور هو بالسريانية الجبل والمراد به طور سينا. وقاله السدّي. وقال مقاتل بن حيان: هما طوران يقال لأحدهما طُورسينا والآخر طورزيتا؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون. وقيل: هو جبل بمَدْيَن وٱسمه زَبير. قال الجوهري: والزَّبير الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام.

قلت: ومدين بالأرض المقدّسة وهي قرية شعيب عليه السلام. وقيل: إن الطُّور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور؛ قاله ابن عباس. وقد مضى في «البقرة» مستوفى.

قوله تعالى: { وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ } أي مكتوب؛ يعني القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف، ويقرؤه الملائكة من اللوح المحفوظ؛ كما قال تعالى: { { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } [الواقعة: 77 - 78]. وقيل: يعني سائر الكتب المنزلة على الأنبياء، وكان كل كتاب في رَقّ ينشره أهله لقراءته. وقال الكلبي: هو ما كتب الله لموسى بيده من التوراة وموسى يسمع صرير القلم. وقال الفراء: هو صحائف الأعمال؛ فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله؛ نظيره: { { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } [الإسراء: 13] وقوله: { { وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ } [التكوير: 10]. وقيل: إنه الكتاب الذي كتبه الله تعالى لملائكته في السماء يقرؤون فيه ما كان وما يكون. وقيل: المراد ما كتب الله في قلوب الأولياء من المؤمنين؛ بيانه: { { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة: 22].

قلت: وفي هذا القول تَجوُّز؛ لأنه عبّر بالقلوب عن الرِّق. قال المبرّد: الرِّق ما رُقِّق من الجلد ليكتب فيه، والمنشور المبسوط. وكذا قال الجوهري في الصحاح، قال: والرَّق بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيق. ومنه قوله تعالى: { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } والرَّق أيضاً العظيم من السَّلاحِف. قال أبو عبيدة: وجمعه رُقُوق. والمعنى المراد ما قاله الفراء؛ والله أعلم. وكل صحيفة فهي رَقٌّ لرقة حواشيها؛ ومنه قول المتلمس:

فكأنَّما هي من تَقَادُمِ عَهْدِهارَقٌّ أتيح كتابُها مَسطور

وأما الرِّق بالكسر فهو المِلك؛ يقال: عبد مرقوق. وحكى الماورديّ عن ٱبن عباس: أن الرَّق بالفتح ما بين المشرق والمغرب.

قوله تعالى: { وَٱلْبَيْتِ ٱلْمَعْمُورِ } قال علي وٱبن عباس وغيرهما: هو بيت في السماء حِيَال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألف ملَك، ثم يخرجون منه فلا يعودون إليه. قال علي رضي الله عنه: هو بيت في السماء السادسة. وقيل: في السماء الرابعة؛ روى أنس بن مالك، عن مالك بن صَعْصَعَة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوتي بي إلى السماء الرابعة فرفع لنا البيت المعمور فإذا هو حِيال الكعبة لو خَرَّ خَرَّ عليها يدخله كل يوم سبعون ألف مَلَك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه" ذكره الماورديّ. وحكى القشيري عن ٱبن عباس أنه في السماء الدنيا. وقال أبو بكر الأنباري: سأل ٱبن الكواء عليًّا رضي الله عنه قال: فما البيت المعمور؟ قال: بيت فوق سبع سموات تحت العرش يقال له الضُّراح. وكذا في «الصحاح»: والضُّراح بالضم بيت في السماء وهو البيت المعمور عن ٱبن عباس. وعُمْرانه كثرة غاشيته من الملائكة. وقال المهدوي عنه: حذاء العرش. والذي في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: "ثم رُفع إليّ البيت المعمور فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف مَلَك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخِرُ ما عليهم" وذكر الحديث. وفي حديث ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أُتِيت بالبُرَاق" الحديث؛ وفيه: "ثم عرج بنا إلى السابعة فٱستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا قال جبريل قيل ومَن معك قال محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيل وقد بُعِث إليه قال قد بُعِث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كلَّ يوم سبعون ألف مَلَك لا يعودون إليه" . وعن ابن عباس أيضاً قال: لله في السموات والأرضين خمسَة عشرَ بيتاً، سبعة في السموات وسبعة في الأرضين والكعبة، وكلها مقابلة للكعبة. وقال الحسن: البيت المعمور هو الكعبة، البيت الحرام الذي هو معمور من الناس، يعمره الله كل سنة بستمائة ألف، فإن عجز الناس عن ذلك أتمه الله بالملائكة، وهو أوّل بيت وضعه الله للعبادة في الأرض. وقال الربيع بن أنس: إن البيت المعمور كان في الأرض موضع الكعبة في زمان آدم عليه السلام، فلما كان زمان نوح عليه السلام أمرهم أن يحجُّوا فأبوا عليه وعصوه، فلما طغى الماء رفع فجعل بحذائه في السماء الدنيا، فيَعمرُه كلَّ يوم سبعونَ ألفَ ملَك، ثم لا يرجعون إليه حتى ينفخ في الصور، قال: فبوّأ الله جلّ وعز لإبراهيم مكان البيت حيث كان؛ قال الله تعالى: { { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلْقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ } [الحج: 26]. { وَٱلسَّقْفِ ٱلْمَرْفُوعِ } يعني السماء سماها سقفاً؛ لأنها للأرض كالسقف للبيت؛ بيانه: { { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [الأنبياء:32]. وقال ٱبن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة. { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } قال مجاهد: الموقَد؛ وقد جاء في الخبر: «إن البحر يُسجَر يوم القيامة فيكون ناراً». وقال قتادة: المملوء. وأنشد النحويون للنَّمِر بن تَوْلَب:

إذا شاء طالعَ مَسْجورةًتَرَى حَولَها النَّبْعَ السَّاسَمَا

يريد وَعْلاً يطالع عينا مسجورة مملوءة. فيجوز أن يكون المملوء ناراً فيكون كالقول المتقدّم. وكذا قال الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والأخفش بأنه المَوْقِد المحميّ بمنزلة التَّنُّور المسجور. ومنه قيل: للمِسْعَر مِسْجَر؛ ودليل هذا التأويل قوله تعالى: { { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [التكوير: 6] أي أوقدت؛ سَجَرت التَّنُّور أسجره سجراً أي أحميته. وقال سعيد بن المسيِّب: قال عليّ رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. قال ما أُرَاك إلا صادقاً، وتلا: «والْبَحْرِ الْمَسْجُورِ». { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ } مخففة. وقال عبد الله بن عمرو: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم. وقال كعب: يُسجَر البحر غداً فيزاد في نار جهنم؛ فهذا قول وقال ٱبن عباس: المسجور الذي ذهب ماؤه. وقاله أبو العالية. وروى عطية وذو الرُّمَّة الشاعر عن ٱبن عباس قال: خرجت أَمَة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارغ، قال ٱبن أبي داود: ليس لذي الرُّمة حديث إلا هذا. وقيل: المسجور أي المفجور؛ دليله: { { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ } [الانفطار: 3] أي تنشفها الأرض فلا يبقى فيها ماء. وقول ثالث قاله عليّ رضي الله عنه وعِكرمة. قال أبو مكين: سألت عِكرمة عن البحر المسجور فقال: هو بحر دون العرش. وقال عليّ: تحت العرش فيه ماء غليظ. ويقال له بحر الحيوان يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحاً فينبتون في قبورهم. وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالملح.

قلت: وإليه يرجع معنى { فُجِّرَتْ } في أحد التأويلين؛ أي فُجِّرَ عذبُها في مالحها: والله أعلم. وسيأتي. وروى عليّ ٱبن أبي طلحة عن ٱبن عباس قال: المسجور المحبوس. { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } هذا جواب القسم؛ أي واقع بالمشركين. قال جُبَير بن مُطْعِمٍ: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، فوافيته يقرأ في صلاة المغرب { وَٱلطُّورِ } إلى قوله: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب. وقال هشام بن حسان: ٱنطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ { وَٱلطُّورِ } حتى بلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } فبكى الحسن وبكى أصحابه؛ فجعل مالك يضطرب حتى غُشِي عليه. ولما وُلّي بكَّار القضاء جاء إليه رجلان يختصمان فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، وأنه يعطي خصمه من عنده عوضاً عن يمينه فأبى إلا اليمين، فأحلفه بأوّل «وَالطُّورِ» إلى أن قال له قل: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } إن كنت كاذباً؛ فقالها فخرج فكسر من حينه.