التفاسير

< >
عرض

فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ
٢٩
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ
٣٠
قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ
٣١
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـٰذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
٣٢
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ
٣٣
فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
٣٤
-الطور

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَذَكِّرْ } أي فذكر يا محمد قومك بالقرآن. { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } يعني برسالة ربك { بِكَاهِنٍ } تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وَحْي. { وَلاَ مَجْنُونٍ } وهذا ردّ لقولهم في النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فعقبة بن أبي مُعَيْط قال: إنه مجنون، وشيبة بن ربيعة قال: إنه ساحر، وغيرهما قال: كاهن؛ فأكذبهم الله تعالى وردّ عليهم. ثم قيل: إن معنى «فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ» القسم؛ أي وبنعمة الله ما أنت بكاهن ولا مجنون. وقيل: ليس قسماً، وإنما هو كما تقول: ما أنت بحمد الله بجاهل؛ أي قد برأك الله من ذلك.

قوله تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ } أي بل يقولون محمد شاعر. قال سيبويه: خوطب العباد بما جرى في كلامهم. قال أبو جعفر النحاس: وهذا كلام حسن إلا أنه غير مبيّن ولا مشروح؛ يريد سيبويه أن «أَمْ» في كلام العرب لخروج من حديث إلى حديث؛ كما قال:

أَتَهْجُـر غَانيـةً أَمْ تُلِـمْ

فتم الكلام ثم خرج إلى شيء آخر فقال:

أَمِ الْحَبْـلُ وَاهٍ بهـا مُنْجَـذِمْ

فما جاء في كتاب الله تعالى من هذا فمعناه التقرير والتوبيخ والخروج من حديث إلى حديث، والنحويون يمثلونها ببل. { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } قال قتادة: قال قوم من الكفار تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفى شاعر بني فلان. قال الضحاك: هؤلاء بنو عبد الدار نسبوه إلى أنه شاعر؛ أي يهلك عن قريب كما هلك مَنْ قبلُ من الشعراء، وأن أباه مات شابًّا فربما يموت كما مات أبوه. وقال الأخفش: نتربص به إلى ريب المنون فحذف حرف الجر، كما تقول: قصدت زيداً وقصدت إلى زيد. والمنون: الموت في قول ٱبن عباس. قال أبو الغَوِل الطُّهوِي:

هُم مَنَعُوا حِمَى الْوَقَبَى بِضَرْبٍيُؤَلِّف بين أَشْتَاتِ الْمَنُونِ

أي المنايا؛ يقول: إن الضرب يجمع بين قوم متفرّقي الأمكنة لو أتتهم مناياهم في أماكنهم لأتتهم متفرقة، فاجتمعوا في موضع واحد فأتتهم المنايا مجتمعة. وقال السدّي عن أبي مالك عن ٱبن عباس: «رَيْبَ» في القرآن شكٌّ إلا مَكاناً واحداً في الطور «رَيْبَ الْمَنُونِ» يعني حوادث الأمور؛ وقال الشاعر:

تَرَبَّصْ بها رَيْبَ الْمَنُونِ لَعَلَّهاتُطَلَّقُ يوماً أو يَموتُ حَلِيلُها

وقال مجاهد: { رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } حوادث الدهر، والمنون هو الدهر؛ قال أبو ذُؤَيْب:

أَمِنَ الْمَنُونِ ورَيْبِه تَتَوجَّعُوالدَّهْرُ لَيس بمُعْتِبٍ مَنْ يَجزَعُ

وقال الأعشى:

أَأَنْ رَأَتْ رجلاً أَعْشَى أَضَرَّ بِهِرَيْب المنونِ ودَهرٌ مُتْبِلٌ خَبِل

قال الأصمعي: المنون الليل والنهار؛ وسميا بذلك لأنهما ينقصان الأعمار ويقطعان الآجال. وعنه: أنه قيل للدهر منون، لأنه يذهب بمُنَّة الحيوان أي قوتِه وكذلك المنِيَّة. أبو عبيدة: قيل للدهر منون؛ لأنه مُضْعِف، من قولهم حَبْلٌ منِين أي ضعيف، والمنين الغبار الضعيف. قال الفراء: والمنون مؤنثة وتكون واحداً وجمعاً. الأصمعي: المنون واحد لا جماعة له. الأخفش: هو جماعة لا واحد له، والمنون يذكر ويؤنّث؛ فمن ذكّره جعله الدهر أو الموت، ومن أنّثه فعلى الحمل على المعنى كأنه أراد المنية.

قوله تعالى: { قُلْ تَرَبَّصُواْ } أي قل لهم يا محمد تربصوا أي ٱنتظروا. { فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ ٱلْمُتَرَبِّصِينَ } أي من المنتظرين بكم العذاب؛ فعُذِّبوا يوم بدر بالسيف.

قوله تعالى: { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ } أي عقولهم { بِهَـٰذَآ } أي بالكذب عليك. { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي أم طَغَوْا بغير عقول. وقيل: «أَمْ» بمعنى بل؛ أي بل كفروا طغياناً وإن ظهر لهم الحق. وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله؛ أي لم يصحبها بالتوفيق. وقيل: «أَحْلاَمُهُمْ» أي أذهانهم؛ لأن العقل لا يُعطَى للكافر ولو كان له عقل لآمن. وإنما يعطى الكافر الذهن فصار عليه حجة. والذِّهن يقبل العلم جملةً، والعقل يميّز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما أعقل فلاناً النصراني! فقال: مَهْ إنّ الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى: { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ }" . وفي حديث ٱبن عمر: "فزجره النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: مَهْ فإن العاقل من يعمل بطاعة الله" ذكره الترمذي الحكيم أبو عبد الله بإسناده. { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي ٱفتعله وٱفتراه، يعني القرآن. والتقوّل تكلُّف القول، وإنما يستعمل في الكذب في غالب الأمر. ويقال قوّلتني ما لم أقل! وأقْوَلتني ما لم أقل؛ أي ٱدّعيته عليّ. وتَقَوَّل عليه أي كذب عليه. وٱقتال عليه تحكَّم قال:

ومَنْزِلةٌ في دارِ صِدْقٍ وغِبْطَةٍومَا ٱقْتالَ مِن حُكْمٍ عَلَيَّ طَبِيبُ

فأم الأولى للإنكار والثانية للإيجاب أي ليس كما يقولون. { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } جَحداً وٱستكباراً. { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } أي بقرآن يشبهه من تلقاء أنفسهم { إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } في أن محمداً ٱفتراه. وقرأ الجحدري { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } بالإضافة. والهاء في «مثله» للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأضيف الحديث الذي يراد به القرآن إليه لأنه المبعوث به. والهاء على قراءة الجماعة للقرآن.