التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٧
وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ
٤٨
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ
٤٩
-الطور

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } أي كفروا { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } قيل: قبل موتهم. ٱبن زيد: مصائب الدنيا من الأوجاع والأسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد. مجاهد: هو الجوع والجَهْد سبع سنين. ٱبن عباس: هو القتل. وعنه: عذاب القبر. وقاله البَرَاء بن عازِب وعليّ رضي الله عنهم. فـ«ـدُونَ» بمعنى غير. وقيل: عذاباً أخفّ من عذاب الآخرة. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن العذاب نازل بهم وقيل: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ما يصيرون إليه.

قوله تعالى: { وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }.

فيه مسألتان:

الأولى: { وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } قيل: لقضاء ربك فيما حمَّلك من رسالته. وقيل: لبلائه فيما ٱبتلاك به من قومك؛ ثم نسخ بآية السيف.

الثانية: قوله تعالى: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي بمرأى ومنظر منَّا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قوله تعالى لموسى عليه السلام: { { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [طه: 39] أي بحفظي وحراستي وقد تقدّم.

قوله تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ }.

فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } ٱختلف في تأويل قوله: { حِينَ تَقُومُ } فقال عون بن مالك وٱبن مسعود وعطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه؛ فيقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك؛ فإن كان المجلس خيراً ٱزددت ثناءً حسناً، وإن كان غير ذلك كان كفارةً له؛ ودليل هذا التأويل ما خرّجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إلٰه إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غُفِر له ما كان في مجلسه ذلك" قال: حديث حسن صحيح غريب. وفيه عن ٱبن عمر قال: كنا نعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: "رب ٱغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التوّاب الغفور" قال حديث حسن صحيح غريب. وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع: المعنى حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً. قال الكِيا الطبري: وهذا فيه بُعد؛ فإن قوله: «حِينَ تَقُومُ» لا يدل على التسبيح بعد التكبير، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام، والتسبيح يكون وراء ذلك، فدلّ على أن المراد فيه حين تقوم من كل مكان كما قال ٱبن مسعود رضي الله عنه. وقال أبو الجوزاء وحسان بن عطية: المعنى حين تقوم من منامك. قال حسان: ليكون مفتتحاً لعمله بذكر الله. وقال الكلبي: وٱذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر. وفي هذا روايات مختلفات صحاح؛ منها حديث عُبادة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من تَعارَّ في الليل فقال لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلا بالله ثم قال اللهم ٱغفر لي أو دعا ٱستجيب له فإن توضأ وصلّى قبلت صلاته" خرّجه البخاري. تعارّ الرجل من الليل: إذا هبّ من نومه مع صوت؛ ومنه عَارَّ الظَّلِيمُ يُعَارُّ عِرَاراً وهو صوته؛ وبعضهم يقول: عَرَّ الظَّلِيمُ يَعِرُّ عِرَاراً، كما قالوا زَمَر النَّعَامُ يَزْمِرُ زِمَاراً. عن ٱبن عباس.

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهنّ ولك الحمد أنت قَيُّوم السموات والأرض ومن فيهنّ ولك الحمد أنت ربّ السموات والأرض ومن فيهنّ أنت الحقّ ووعدك الحقّ وقولك الحقّ ولقاؤك الحقّ والجنة حقّ والنار حقّ والساعة حقّ والنبيون حقّ ومحمد حقّ اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فٱغفر لي ما قدّمت وما أخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إلٰه إلا أنت ولا إلٰه غيرك" متفق عليه. وعن ٱبن عباس أيضاً: "أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا ٱستيقظ من الليل مسح النوم عن وجهه؛ ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران" . وقال زيد بن أسلم: المعنى حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر. قال ٱبن العربي: أما نوم القائلة فليس فيه أثر وهو ملحق بنوم الليل. وقال الضحاك: إنه التسبيح في الصلاة إذا قام إليها. الماوردي: وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما وهو قوله سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود. الثاني أنه التوجه في الصلاة يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إلٰه غيرك. قال ٱبن العربي: من قال إنه التسبيح للصلاة فهذا أفضله، والآثار في ذلك كثيرة أعظمها ما ثبت عن عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه: "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجَّهت وجهي" الحديث. وقد ذكرناه وغيره في آخر سورة «الأنعام». وفي البخاري "عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله عَلِّمني دعاء أدعو به في صلاتي؛ فقال: قل اللّهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك وٱرحمني إنك أنت الغفور الرحيم" .

الثانية: قوله تعالى: { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } تقدّم في «قۤ» مستوفًى عند قوله تعالى: { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ }. وأما «إِدْبَارَ النُّجُومِ» فقال عليّ وٱبن عباس وجابر وأنس: يعني ركعتي الفجر. فحمل بعض العلماء الآية على هذا القول على الندب وجعلها منسوخة بالصلوات الخمس. وعن الضحاك وٱبن زيد: أن قوله: { وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } يريد به صلاة الصبح وهو ٱختيار الطبريّ. وعن ٱبن عباس: أنه التسبيح في آخر الصلوات. وبكسر الهمزة في { وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } قرأ السبعة على المصدر حسب ما بيناه في «قۤ». وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السَّمَيْقَع «وَأَدْبَارَ» بالفتح، ومثله روي عن يعقوب وسلام وأيوب؛ وهو جمع دُبْر ودُبُر. ودُبْر الأمر ودُبُره آخره. وروى الترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن رِشْدِين بن كريب عن أبيه عن ٱبن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إدبار النجوم الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب" قال: حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه من حديث محمد بن فضيل عن رِشدِين بن كريب. وسألت محمد بن إسماعيل عن محمد بن فضيل ورِشْدِين بن كريب أيهما أوثق؟ فقال: ما أقربهما، ومحمد عندي أرجح. قال: وسألت عبد الله بن عبد الرحمن عن هذا فقال: ما أقربهما، ورِشدِين بن كريب أرجحهما عندي. قال الترمذي: والقول ما قال أبو محمد ورِشدين بن كريب عندي أرجح من محمد وأقدم، وقدم أدرك رِشدِين ٱبن عباس ورآه. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدّ معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح. وعنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" . تم تفسير سورة «والطور» والحمد لله.