التفاسير

< >
عرض

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ
٣٦
وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ
٣٧
أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ
٣٨
وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ
٣٩
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ
٤٠
ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ
٤١
وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ
٤٢
-النجم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ. وَإِبْرَاهِيمَ } أي صحف { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } كما في سورة «الأعلى» { { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [الأعلى: 19] أي لا تؤخذ نفس بدلاً عن أخرى؛ كما قال: { أَن لاَتَزِرُ وَٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } وخصّ صحف إبراهيم وموسى بالذكر؛ لأنه كان ما بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة أخيه وٱبنه وأبيه؛ قاله الهذيل ابن شرحبيل. «وأنْ» هذه المخففة من الثقيلة وموضعها جرٌّ بدلاً من «ما» أو يكون في موضع رفع على إضمار هو. وقرأ سعيد بن جبير وقتادة «وَفَى» خفيفة ومعناها صدق في قوله وعمله، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة «وَفَّى» بالتشديد أي قام بجميع ما فرض عليه فلم يَخْرم منه شيئاً. وقد مضى في «البقرة» عند قوله تعالى: { { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124] والتوفية الإتمام. وقال أبو بكر الورّاق: قام بشرط ما ٱدعى؛ وذلك أن الله تعالى قال له: { { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة: 131] فطالبه الله بصحة دعواه، فابتلاه في ماله وولده ونفسه فوجده وافياً بذلك؛ فذلك قوله: { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } أي ٱدّعى الإسلام ثم صحح دعواه. وقيل: وفّي عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار؛ رواه الهيثم عن أبي أمامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وروى سهل بن سعد الساعدي عن أبيه: "أَلاَ أخبركم لم سَمَّى اللَّه تعالى خليلَه إبراهيمَ الَّذِي وَفَّى لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ }" [الروم: 17] الآية. ورواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: «وفَّى» أي وَفَّى ما أرسل به، وهو قوله: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } قال ٱبن عباس: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، ويأخذون الوليَّ بالولِيِّ في القتل والجراحة؛ فيقتل الرجل بأبيه وٱبنه وأخيه وعمه وخاله وٱبن عمه وقريبه وزوجته وزوجها وعبده، فبلغهم إبراهيم عليه السلام عن الله تعالى: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }. وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى «وَفَّى»: عمل بما أمر به وبلّغ رسالات ربه. وهذا أحسن؛ لأنه عام. وكذا قال مجاهد: «وَفَّى» بما فرض عليه. وقال أبو مالك الغفاريّ قوله تعالى: { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } إلى قوله: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } في صحف إبراهيم وموسى، وقد مضى في آخر «الأنعام» القول في { { وَلاَ تَزِرُوَٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } [الأنعام: 164] مستوفى.

قوله تعالى: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } روي عن ٱبن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى: { { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الطور: 21] فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه، ويشفِّع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء؛ يدل على ذلك قوله تعالى { { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } [النساء: 11]. وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة ولا ينفع أحداً عملُ أحدٍ، وأجمعوا أنه لا يصلّي أحد عن أحد. ولم يُجِز مالك الصيام والحج والصدقة عن الميت، إلا أنه قال: إن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه. وأجاز الشافعي وغيره الحج التطوّع عن الميّت. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها ٱعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه. وروي "أن سعد بن عبادة قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن أمِّي توفيت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء" . وقد مضى جميع هذا مستوفًى في «البقرة» و «آل عمران» «والأعراف». وقد قيل: إن الله عز وجل إنما قال: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } ولام الخفض معناها في العربية الملك والإيجاب فلم يجب للإنسان إلا ما سعى، فإذا تصدّق عنه غيره فليس يجب له شيء إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لا يجب له، كما يتفضل على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل. وقال الربيع بن أنس: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سَعَى وما سَعَى له غيره.

قلت: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره، وقد تقدّم كثير منها لمن تأملها، وليس في الصدقة ٱختلاف، كما في صدر كتاب مسلم عن عبد الله بن المبارك. وفي الصحيح: "إذا مات الإنسان ٱنقطع عمله إلا من ثلاث" وفيه "أو ولد صالح يدعو له" وهذا كله تفضل من الله عز وجل، كما أن زيادة الأضعاف فضل منه؛ كتب لهم بالحسنة الواحدة عشراً إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة؛ كما قيل لأبي هريرة: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة" فقال سمعته يقول: "إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة" فهذا تفضل. وطريق العدل { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ }.

قلت: ويحتمل أن يكون قوله: { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } خاص في السيئة؛ بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل إذا همّ عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضِعف وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئةً واحدة" . وقال أبو بكر الورّاق: { إِلاَّ مَا سَعَىٰ } إلا ما نوى؛ بيانه قوله صلى الله عليه وسلم: "يُبعث الناس يوم القيامة على نياتهم" .

قوله تعالى: { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } أي يُريه الله تعالى جزاءه يوم القيامة { ثُمَّ يُجْزَاهُ } أي يجزى به { ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ }. قال الأخفش: يقال جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما؛ قال الشاعر:

إِنْ أَجْزِ عَلْقَمَة بنَ سْعدٍ سَعْيَهلم أَجْزِهِ ببَلاءِ يَوْمٍ واحِدِ

فجمع بين اللغتين.

قوله تعالى: { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } أي المرجع والمردّ والمصير فيعاقب ويثيب. وقيل: منه ٱبتداء المِنَّة وإليه ٱنتهاء الأمان. وعن أبيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } قال: "لا فكرة في الربّ" . وعن أنس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذ ذكر الله تعالى فانْته" .

قلت: ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "يأتي الشيطان أحدَكم فيقول من خَلَق كذا وكذا حتى يقول له من خَلَق ربَّكَ فإذا بلغ ذلك فلْيستِعذْ بالله ولْيَنْته" وقد تقدّم في آخر «الأعراف». ولقد أحسن من قال:

ولا تُفْكِرنْ في ذِي العُلاَ عَزَّ وجهُهُفإنَّكَ تُردَى إنْ فعلتَ وتُخْذَلُ
ودونَك مصنوعَاتِه فاعتَبِرْ بِهاوقُلْ مِثلَ ما قال الخلِيلُ المبَجَّلُ