التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ
٤٣
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا
٤٤
وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ
٤٥
مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ
٤٦
-النجم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } ذهبت الوسائط وبقيت الحقائق لله سبحانه وتعالى فلا فاعل إلا هو؛ وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لا والله ما قال رسول الله قطٌّ إنّ الميِّت يعذَّب ببكاء أحدٍ، ولكنه قال: "إنّ الكافرَ يزيدهُ الله ببكاء أهله عذاباً وإنّ الله لهو أضحك وأبْكَى وما تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" . وعنها قالت: "مَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على قوم من أصحابه وهم يضحكون، فقال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً فنزل عليه جبريل فقال: يا محمد! إن الله يقول لك: { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ }. فرجع إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال ٱيِت هؤلاء فقل لهم إن الله تعالى يقول: { هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ }" أي قضى أسباب الضحك والبكاء. وقال عطاء بن أبي مسلم: يعني أفرح وأحزن؛ لأن الفرح يجلب الضحك والحزن يجلب البكاء. وقيل لعمر: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم! والإيمان والله أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وقد تقدّم هذا المعنى في «النمل» و «براءة». قال الحسن: أضحك الله أهل الجنة في الجنة، وأبكى أهل النار في النار. وقيل: أضحك من شاء في الدنيا بأن سَرَّه وأبكى من شاء بأن غَمَّه. الضحاك: أضحك الأرض بالنبات وأبكى السماء بالمطر. وقيل: أضحك الأشجار بالنَّوَّار، وأبكى السحاب بالأمطار. وقال ذو النون: أضحك قلوب المؤمنين والعارفين بشمس معرفته، وأبكى قلوب الكافرين والعاصين بظلمة نكرته ومعصيته. وقال سهل بن عبد الله: أضحك الله المطيعين بالرحمة وأبكى العاصين بالسخط. وقال محمد بن علي الترمذي: أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا. وقال بسام بن عبد الله: أضحك الله أسنانهم وأبكى قلوبهم. وأنشد:

السِّنُّ تَضحَكُ والأحشاءُ تَحْتَرِقُوإنما ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ
يا رُبَّ باكٍ بِعَيْنٍ لا دموعَ لهاورُبَّ ضاحِكِ سنٍّ ما بِهِ رَمَقُ

وقيل: إن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان. وقد قيل: إن القرد وحده يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك. وقال يوسف بن الحسين: سئل طاهر المقدسي أتضحك الملائكة؟ فقال: ما ضحكوا ولا كلّ من دون العرش منذ خلقت جهنم. { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي قضى أسباب الموت والحياة. وقيل: خلق الموت والحياة كما قال: { { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [الملك:2] قاله ٱبن بحر. وقيل: أمات الكافر بالكفر وأحيا المؤمن بالإيمان؛ قال الله تعالى: { { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [الأنعام:122] الآية. وقال: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } [الأنعام: 36] على ما تقدّم، وإليه يرجع قول عطاء: أمات بعدله وأحيا بفضله. وقول من قال: أمات بالمنع والبخل وأحيا بالجود والبذل. وقيل: أمات النطفة وأحيا النَّسَمة. وقيل: أمات الآباء وأحيا الأبناء. وقيل: يريد بالحياة الخصب وبالموت الجدب. وقيل: أنام وأيقظ. وقيل: أمات في الدنيا وأحيا للبعث. { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } أي من أولاد آدم ولم يرد آدم وحوّاء بأنهما خلقا من نُطْفة. والنطفة الماء القليل، مشتق من نطفَ الماءُ إذا قَطَر. { تُمْنَىٰ } تُصبّ في الرحم وتراق؛ قال الكلبي والضحاك وعطاء بن أبي رباح. يقال: مَنَى الرجل وأَمْنى من الْمَنِيّ، وسميت مِنًى بهذا الاسم لما يُمْنَى فيها من الدماء أي يُراق. وقيل: { تُمْنَىٰ } تُقدَّر؛ قاله أبو عبيدة. يقال: مَنَيت الشيء إذا قَدّرته، ومُنِي له أي قُدّر له؛ قال الشاعر:

حَتّـى تُـلاَقِيَ مـا يَمْنِـي لَكَ الْمَانِـي

أي ما يقدر لك القادر.