التفاسير

< >
عرض

وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ
١
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ
٢
وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ
٣
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ
٤
عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ
٥
ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ
٦
وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ
٧
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ
٨
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
٩
فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ
١٠
-النجم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } قال ٱبن عباس ومجاهد: معنى { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } والثُّرَيَّا إذَا سقطت مع الفجر؛ والعرب تسمي الثُّريَّا نجماً وإن كانت في العدد نجوماً؛ يقال: إنها سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة وواحد خفيّ يَمتحِن الناس به أبصارهم. وفي «الشِّفا» للقاضي عياض: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثُّريا أحد عشر نجماً. وعن مجاهد أيضاً أن المعنى والقرآن إذا نزل؛ لأنه كان ينزل نجوماً. وقاله الفرّاء. وعنه أيضاً: يعني نجوم السماء كلها حين تغرب. وهو قول الحسن قال: أقسم الله بالنجوم إذا غابت. وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمْع؛ كقول الراعي:

فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحِيرةٍسَرِيع بِأيدي الآكلِين جمُودُها

وقال عمر بن أبي ربيعة:

أَحْسَنُ النَّجْمِ في السماءِ الثُّرَيَّاوَالثُّرَيَّا في الأرضِ زَيْنُ النِّساءِ

وقال الحسن أيضاً: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة. وقال السدّي: إن النجم ههنا الزُّهرَة لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها. وقيل: المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين؛ وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً كثر ٱنقضاض الكواكب قبل مولده، فذُعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريراً، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال: ٱنظروا البروج الاثني عشر فإن ٱنقضّ منها شيء فهو ذهاب الدنيا، فإن لم ينقضّ منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك؛ فلما بُعِث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي ٱستشعروه، فأنزل الله تعالى: { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوّة التي حدثت. وقيل: النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق، وهَوَى أي سقط على الأرض. وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: «وَالنَّجْمِ» يعني محمداً صلى الله عليه وسلم «إِذَا هَوَى» إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما: "أن عُتبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال: لآتينّ محمداً فلأوذينّه، فأتاه فقال: يا محمد أنا كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى. ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وردّ عليه ٱبنته وطَلّقها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:اللّهم سَلِّط عليه كلباً من كلابك وكان أبو طالب حاضراً فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلاً، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة! فإني أخاف على ٱبني من دعوة محمد؛ فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتَشمَّم وجوههم حتى ضرب عُتْبة فقتله" . وقال حسان:

مَنْ يَرْجِعِ العام إِلى أَهْلِهِفَمَا أَكِيلُ السَّبْع بالرَّاجِع

وأصل النَّجْم الطلوع؛ يقال: نَجَم السنُّ ونَجَم فلانٌ ببلاد كذا أي خرج على السلطان. والهُوِيّ النزول والسقوط؛ يقال: هَوَى يَهْوِي هُوِيّاً مثل مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا؛ قال زهير:

فَشَجَّ بِهَا الأماعِزَ وهْي تَهْوِيهُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَها الرِّشَاءُ

وقال آخر:

بَيْنَما نَحْنُ بالبَلاَكِثِ فالْقَاعِ سِرَاعاً والعِيسُ تَهْوِي هُوِيّاً
خَطَرتْ خَطْرَةٌ على القَلْبِ مِن ذِكْــرَاكِ وَهْناً فما ٱستطعْتُ مُضيًّا

الأصمعي: هَوَى بالفتح يَهْوِي هُوَيًّا أي سقط إلى أسفل. قال: وكذلك ٱنهوى في السير إذا مضى فيه، وهَوَى وٱنْهَوى فيه لغتان بمعنًى، وقد جمعهما الشاعر في قوله:

وكَمْ مَنْزِلٍ لولايَ طِحْتَ كما هَوَىبأَجرامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مَنْهَوِي

ويقال في الحُبّ: هَوِيَ بالكسر يَهْوَى هَوًى؛ أي أحبّ.

قوله تعالى: { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } هذا جواب القسم؛ أي ما ضلّ محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق وما حاد عنه. { وَمَا غَوَىٰ } الغيَّ ضد الرشد أي ما صار غاوياً. وقيل: أي ما تكلم بالباطل. وقيل: أي ما خاب مما طلب والغيّ الخيبة؛ قال الشاعر:

فمن يَلْقَ خيراً يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ على الغَيِّ لائِمَا

أي مَن خاب في طلبه لامه الناس. ثم يجوز أن يكون هذا إخباراً عما بعد الوحي. ويجوز أن يكون إخباراً عن أحواله على التعميم؛ أي كان أبداً موحداً لله. وهو الصحيح على ما بيناه في «الشورى» عند قوله: { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ }. قوله تعالى: { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ }.

فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } إليه. وقيل: «عَنِ الْهَوَى» أي بالهوى؛ قاله أبو عبيدة؛ كقوله تعالى: { { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [الفرقان: 59] أي فٱسأل عنه. النحاس: قول قتادة أولى، وتكون «عن» على بابِها، أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل؛ لأن بعده: { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ }.

الثانية: قد يحتج بهذه الآية من لا يجوّز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث. وفيها أيضاً دلالة على أن السُّنة كالوحي المنزل في العمل. وقد تقدّم في مقدّمة الكتاب حديث المِقدام بن معدي كرب في ذلك والحمد لله. قال السجستاني: إن شئت أبدلت { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } مِن { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } قال ٱبن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن «إِنْ» الخفيفة لا تكون مبدلة من «ما» الدليل على هذا أنك لا تقول: والله ما قمت إِن أنا لقاعد.

قوله تعالى: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين؛ سوى الحسن فإنه قال: هو الله عز وجل، ويكون قوله تعالى: { ذُو مِرَّةٍ } على قول الحسن تمام الكلام، ومعناه ذو قوّة والقوة من صفات الله تعالى؛ وأصله من شدّة فتل الحبل، كأنه ٱستمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل. ثم قال: { فَٱسْتَوَىٰ } يعني الله عز وجل؛ أي ٱستوى على العرش. روي معناه عن الحسن. وقال الربيع بن أنس والفراء: { فَٱسْتَوَىٰ } { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } أي ٱستوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا على العطف على المضمر المرفوع بـ «ـهو». وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه؛ فيقولون: ٱستوى هو وفلان؛ وقلما يقولون ٱستوى وفلان؛ وأنشد الفرّاء:

أَلَمْ تَرَ أَنّ النَّبْعَ يَصلُبُ عُودُهُولا يَسْتوِي والخِرْوَعُ المتقصِّفُ

أي لا يستوى هو والخِروع؛ ونظير هذا: { { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ } [النمل: 67] والمعنى أئذا كنا تراباً نحن وآباؤنا. ومعنى الآية: ٱستوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الإسراء بالأفق الأعلى. وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر. وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر. وقيل: المعنى فٱستوى جبريل بالأفق الأعلى، وهو أجود. وإذا كان المستوي جبريل فمعنى «ذُوِ مرَّةٍ» في وصفه ذو منطق حسن؛ قاله ٱبن عباس. وقال قتادة: ذو خَلْق طويل حسن. وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات؛ ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ" . وقال امرؤ القيس:

كنتُ فيهم أبداً ذا حِيلةمُحْكَمَ المِرَّةِ مأمُونَ الْعُقَد

وقد قيل: «ذُو مِرَّةٍ» ذو قوة. قال الكلبي: وكان من شدّة جبريل عليه السلام: أنه ٱقتلع مدائن قوم لوطٍ من الأرض السفلى، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها. وكان من شدّته أيضاً: أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدّسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند، وكان من شدّته: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين. وكان من شدته: هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف. وقال قُطْرُب: تقول العرب لكل جَزل الرأي حصيف العقل: ذُو مِرّةٍ. قال الشاعر:

قد كنتُ قبلَ لِقاكُمُ ذا مِرَّةٍعندي لِكلّ مُخاصِمٍ مِيزانُهُ

وكان من جزالة رأيه وحصَافة عقله: أن الله ٱئتمنه على وحيه إلى جميع رسله. قال الجوهري: والمِرَّة إحدى الطبائع الأربع، والمِرّة القوّة وشدّة العقل أيضاً. ورجل مرير أي قويّ ذوِ مرةٍ. قال:

تَرى الرَّجُل النَّحيفَ فتزدريهوحَشْوُ ثِيابِه أسدٌ مَرِيرٌ

وقال لَقِيط:

حتى ٱستمرّتْ على شَزْرٍ مَرِيرتهُمُرُّ العزِيمةِ لا رَتًّا ولا ضَرَعَا

وقال مجاهد وقتادة: «ذُو مِرَّةٍ» ذو قوّة؛ ومنه قول خُفَاف بن نَدْبة:

إِنيّ ٱمرؤٌ ذو مِرّةٍ فاستبقِنِيفِيما يَنُوبُ مِن الخُطُوبِ صَلِيبُ

فالقوة تكون من صفة الله عز وجل، ومن صفة المخلوق. { فَٱسْتَوَىٰ } يعني جبريل على ما بينا؛ أي ٱرتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علَّم محمداً صلى الله عليه وسلم، قاله سعيد بن المسيِّب وٱبن جبير. وقيل: { فَٱسْتَوَىٰ } أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها؛ لأنه كان يأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة الأدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء؛ فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بحراءٍ، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب، فخر النبيّ صلى الله عليه وسلم مغشيًّا عليه، فنزل إليه في صورة الآدميين وضمّه إلى صدره، وجعل يمسح الغبار عن وجهه؛ فلما أفاق النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحداً على مثل هذه الصورة" . فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سَعَة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال: «إن هذا لعظيم» فقال: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيراً، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يكون بقدر الوصَع. يعني العصفور الصغير؛ دليله قوله تعالى: { { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } [التكوير: 23] وأما في السماء فعند سِدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمداً صلى الله عليه وسلم. وقول ثالث أن معنى «فَاسْتَوَى» أي ٱستوى القرآن في صدره. وفيه على هذا وجهان: أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه. الثاني في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه. وقول رابع أن معنى «فَاسْتَوَى» فاعتدل يعني محمداً صلى الله عليه وسلم. وفيه على هذا وجهان: أحدهما فاعتدل في قوّته. الثاني في رسالته. ذكرهما الماوردي.

قلت: وعلى الأوّل يكون تمام الكلام «ذُو مرَّةٍ»، وعلى الثاني «شَدِيدُ الْقُوَى». وقول خامس أن معناه فارتفع. وفيه على هذا وجهان: أحدهما أنه جبريل عليه السلام ٱرتفع إلى مكانه على ما ذكرنا آنفاً. الثاني أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ٱرتفع بالمعراج. وقول سادس «فَاسْتَوَى» يعني الله عز وجل، أي ٱستوى على العرش على قول الحسن. وقد مضى القول فيه في «الأعراف».

قوله تعالى: { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } جملة في موضع الحال، والمعنى فاستوى عالياً، أي ٱستوى جبريل عالياً على صورته ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا. والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتي منه الشمس. وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. ونحوه عن مجاهد. ويقال: أفْق وأُفُق مثل عُسْر وعُسُر. وقد مضى في «حم السجدة». وفرس أُفُق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى؛ قال الشاعر:

أرجِّلُ لِمَّتِي وَأَجُرُّ ذَيْلِيوتَحمِلُ شِكَّتِي أُفُقٌ كُمَيْتُ

وقيل: «وَهُوَ» أي النبيّ صلى الله عليه وسلم { بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } يعني ليلة الإسراء وهذا ضعيف؛ لأنه يقال: ٱستوى هو وفلان، ولا يقال ٱستوى وفلان إلا في ضرورة الشعر. والصحيح ٱستوى جبريل عليه السلام وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية؛ لأنه كان يتمثل للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يراه على صورته الحقيقية، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق.

قوله تعالى: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } أي دنا جبريل بعد ٱستوائه بالأفق الأعلى من الأرض { فَتَدَلَّىٰ } فنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي. المعنى أنه لما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم من عظمته ما رأى، وهاله ذلك ردّه الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي، وذلك قوله تعالى: { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ } يعني أوحي الله إلى جبريل وكان جبريل { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } قاله ٱبن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم. وعن ٱبن عباس أيضاً في قوله تعالى: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } أن معناه أن الله تبارك وتعالى «دَنَا» من محمد صلى الله عليه وسلم { فَتَدَلَّىٰ }. وروى نحوه أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. والمعنى دنا منه أمره وحكمه. وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب؛ قال لبِيد:

فتَدَلَّيْت عليه قافِلاًوعلى الأرض غيَابَات الطَّفَل

وذهب الفرّاء إلى أن الفاء في «فَتَدَلَّى» بمعنى الواو، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني؛ لأن الشتم والإساءة شيء واحد. وكذلك قوله تعالى: { { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [القمر: 1] المعنى والله أعلم: ٱنشق القمر وٱقتربت الساعة. وقال الجرجاني: في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا؛ لأن التدلّي سبب الدنوّ. وقال ٱبن الأنباري: ثم تدلّى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ٱبن عباس: تدلّى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. وسيأتي. ومن قال: المعنى فٱستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول: ثم دنا محمد من ربه دنوّ كرامة فتدلّى أي هَوَى للسجود. وهذا قول الضحاك. قال القشيري: وقيل على هذا تدلّى أي تَدلّلَ؛ كقولك تَظَنَّى بمعنى تَظَنَّنَ، وهذا بعيد؛ لأن الدلال غير مرضيّ في صفة العبودية.

قوله تعالى: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } أي «كان» محمد من ربه أو من جبريل { قَابَ قَوْسَيْنِ } أي قدر قوسين عربيتين. قاله ٱبن عباس وعطاء والفرّاء. الزمخشري: فإن قلت كيف تقدير قوله: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله:

وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِن حَزِيمَةَ إِصْبِعَا

أي ذا مقدار مسافة إصبع «أَوْ أَدْنَى» أي على تقديركم؛ كقوله تعالى: { { أَوْ يَزِيدُونَ } [الصافات: 174]. وفي الصحاح: وتقول بينهما قابُ قَوْس، وقِيبُ قَوْس وقادَ قَوْس، وقِيدُ قَوْس؛ أي قَدْر قَوْسٍ. وقرأ زيد بن علي «قَادَ» وقرىء «قِيدَ» و «قَدْرَ». ذكره الزمخشري. وألقابُ ما بين المَقْبِض والسِّيَة. ولكل قوس قابان. وقال بعضهم في قوله تعالى: { قَابَ قَوْسَيْنِ } أراد قابي قوس فقلبه. وفي الحديث: "ولَقابُ قوسِ أحدِكم من الجنة وموضع قِدّه خيرٌ من الدنيا وما فيها" والقِدّ السوط. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ولَقابُ قوسِ أحدِكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها" . وإنما ضرب المثل بالقوس، لأنها لا تختلف في القاب. والله أعلم. قال القاضي عِياض: ٱعلم أن ما وقع من إضافة الدنوّ والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنوّ مكانٍ ولا قرب مَدًى، وإنما دنوّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من ربه وقرْبه منه: إبانةُ عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومِن الله تعالى له: مبرةٌ وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأوّل في قوله عليه السلام: "ينزل ربنا إلى سماء الدنيا" على أحد الوجوه: نزول إجمال وقبول وإحسان. قال القاضي: وقوله: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } فمن جعل الضمير عائداً إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، وإيضاح المعرفة، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم، وعبارةً عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفِّي، وإنافة المنزلة والقرب من الله؛ ويتأوّل فيه ما يتأوّل في قوله عليه السلام: "من تقرّب مني شبراً تقرّبت منه ذراعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً" قربٌ بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل: «ثُمَّ دَنَا» جبريل من ربه { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } قاله مجاهد. ويدلّ عليه ما روي في الحديث: "إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام" . وقيل: «أو» بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى. وقيل: بمعنى بل أي بل أدنى. وقال سعيد بن المسيّب: القاب صدر القوس العربية حيث يشدّ عليه السير الذي يتنكّبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين. وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهَمْداني وأبو وائل شقيق بن سلمة: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } أي قدر ذراعين، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء، وهي لغة بعض الحجازيين. وقيل: هي لغة أزد شَنُوءة أيضاً. وقال الكسائي: قوله: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } أراد قوساً واحداً؛ كقول الشاعر:

ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْن مَرْتَيْنِقَطَعْتُهُ بالسَّمْتِ لا بالسَّمْتَيْنِ

أراد مهمهاً واحداً. والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس؛ وفي المثل هو من خيرِ قُوَيْسٍ سَهْماً، والجمع قِسِيّ وقُسِيّ وأقواس وقِياس؛ وأنشد أبو عبيدة:

ووَتَّـرَ الأسـاورُ القِياسَـا

والقَوْس أيضاً بقية التّمْر في الجُلَّة أي الوعاء، والقَوْس برج في السماء. فأما القُوسُ بالضم فصومعة الراهب؛ قال الشاعر وذكر ٱمرأة:

لاسْتَفْتَنَتْنِي وذَا المْسحَينِ في القُوسِ

قوله تعالى: { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } تفخيم للوحي الذي أوحى إليه. وتقدّم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوَحَاء الوَحَاء. والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى. وقيل: المعنى { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ } جبريل عليه السلام «مَا أَوْحَى». وقيل: المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وٱبن زيد وقتادة. قال قتادة: أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد. ثم قيل: هذا الوحي هل هو مبهم؟ لا نَطَّلِع عليه نحن وتُعُبِّدْنَا بالإيمان به على الجملة، أو هو معلوم مفّسر؟ قولان. وبالثاني قال سعيد بن جبير، قال: أوحى الله إلى محمد: ألم أجدك يتيماً فآويتك! ألم أجدك ضالاًّ فهديتك! ألم أجدك عائلاً فأغنيتك! { { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح: 1 - 4]. وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.