التفاسير

< >
عرض

هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ
٥٦
أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ
٥٧
لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ
٥٨
أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ
٥٩
وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ
٦٠
وَأَنتُمْ سَامِدُونَ
٦١
فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ
٦٢
-النجم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } قال ٱبن جُرَيج ومحمد بن كعب: يريد أن محمداً صلى الله عليه وسلم نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله، فإن أطعتموه أفلحتم، وإلاّ حلّ بكم ما حلّ بمكذّبي الرسل السالفة. وقال قتادة: يريد القرآن، وأنه نذير بما أَنذرت به الكتب الأولى. وقيل: أي هذا الذي أخبرنا به من أخبار الأمم الماضية الذين هلكوا تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك من النذر أي مثل النذر؛ والنذر في قول العرب بمعنى الإنذار كالنُّكُر بمعنى الإنكار؛ أي هذا إنذار لكم. وقال أبو مالك: هذا الذي أنذرتكم به من وقائع الأمم الخالية هو في صحف إبراهيم وموسى. وقال السديّ أخبرني أبو صالح قال: هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله تعالى: { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ } إلى قوله: { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } كل هذه في صحف إبراهيم وموسى.

قوله تعالى: { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } أي قربت الساعة ودنت القيامة. وسماها آزفة لقرب قيامها عنده؛ كما قال: { { يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } .[المعارج:6] وقيل: سماها آزفة لدنوّها من الناس وقربها منهم ليستعدّوا لها؛ لأن كل ما هو آت قريب. قال:

أَزِفَ التَّرَحُّلُ غيرَ أنّ رِكَابَنَالمَّا تَزَلْ بِرِحالنا وكأَنْ قَدِ

وفي الصحاح: أَزِف الترحل يَأْزَف أَزَفاً أي دنا وأَفِد؛ ومنه قوله تعالى: { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } يعني القيامة، وأزِف الرجل أي مَجِل فهو آزِف على فاعل، والمتآزِف القصير وهو المتداني. قال أبو زيد: قلت لأعرابي ما الْمُحْبَنْطِىءُ؟ قال: المتَكَأْكِىءُ. قلت: ما الْمُتَكأْكِىُء؟ قال: المتآزِف. قلت: ما المتآزف؟ قال: أنت أحمق وتركني وَمَّر. { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها. وقيل: كاشفة أي ٱنكشاف أي لا يكشف عنها ولا يبديها إلا الله؛ فالكاشفة ٱسم بمعنى المصدر والهاء فيه كالهاءِ في العاقبة والعافية والداهية والباقية؛ كقولهم: ما لفلان من باقية أي من بقاء. وقيل: أي لا أحد يردّ ذلك؛ أي إن القيامة إذا قامت لا يكشفها أحد من آلهتهم ولا ينجيهم غير الله تعالى. وقد سميت القيامة غاشية، فإذا كانت غاشية كان ردّها كشفاً، فالكاشفة على هذا نعت مؤنث محذوف؛ أي نفس كاشفة أو فرقة كاشفة أو حال كاشفة. وقيل: إِن «كاشِفة» بمعنى كاشف والهاء للمبالغة مثل راوية وداهية.

قوله تعالى: { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } يعني القرآن. وهذا ٱستفهام توبيخ { تَعْجَبُونَ } تكذيباً به { وَتَضْحَكُونَ } استهزَاء { وَلاَ تَبْكُونَ } ٱنزجاراً وخوفاً من الوعيد. وروي: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما رؤي بعد نزول هذه الآية ضاحكاً إلا تبسُّماً" . وقال أبو هريرة: لما نزلت { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } قال أهل الصفة: { { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [البقرة:156] ثم بكوا حتى جرت دموعهم على خدودهم، فلما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بكاءهم بكى معهم فبكينا لبكائه؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يِلج النارَ مَن بكى من خشية الله ولا يدخل الجنة مُصِرٌّ على معصية الله ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم إنه هو الغفور الرحيم" . وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يبكي، فقال له: من هذا؟ قال: هذا فلان؛ فقال جبريل: إنا نزِن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفىء بالدمعة الواحدة بحوراً من جهنم.

قوله تعالى: { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } أي لاهون معرضون. عن ٱبن عباس؛ رواه الوالبيّ والعوفيّ عنه. وقال عكرمة عنه: هو الغناء بلغة حِمْيَر؛ يقال: سمِّد لنا أي غنِّ لنا، فكانوا إذا سمعوا القرآن يتلى تغنوا ولعبوا حتى لا يسمعوا. وقال الضحاك: سامدون شامخون متكبرون. وفي الصحاح: سمَدَ سُمُوداً رفع رأسه تكبُّراً وكل رافع رأسه فهو سامد؛ قال:

سَوَامِـدُ اللَّيْـلِ خِفَـافُ الأَزْوَادْ

يقول: ليس في بطونها علف. وقال ٱبن الأعرابي: سَمَدت سُمُوداً علوت. وسَمَدَت الإبلُ في سيرها جدّت. والسُّمُود اللّهو، والسامد الّلاهي؛ يقال للقَيْنة: أَسمِدينا؛ أي ألهينا بالغناء. وتسميد الأرض أن يجعل فيها السماد وهو سِرْجين ورَمَاد. وتسميد الرأس ٱستئصال شعره، لغة في التّسبِيد. وٱسمأَدّ الرجل بالهمز ٱسْمِئْداداً أي وَرِم غضباً. وروي عن عليّ رضي الله عنه أن معنى «سَامِدُونَ» أن يجلسوا غير مصلّين ولا منتظرين الصلاة. وقال الحسن: واقفون للصلاة قبل وقوف الإمام؛ ومنه ما "روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه خرج والناس ينتظرونه قياماً فقال: مالي أراكم سامدين" حكاه الماوردي. وذكره المهدوي عن عليّ، وأنه خرج إلى الصلاة فرأى الناس قياماً (ينتظرونه) فقال: «ما لكم سامدون» قاله المهدوي. والمعروف في اللغة: سَمَد يَسْمُد سُمُوداً إذا لَهَا وأعرض. وقال المبرّد: سامدون خامدون؛ قال الشاعر:

أَتَى الحِدْثَانُ نِسوةَ آلِ حَرْبٍبمَقْدورٍ سَمَدْنَ له سُمُوداً

وقال صالح أبو الخليل: لما قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ.وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } لم يُرَ ضاحكاً إلا مبتسماً حتى مات صلى الله عليه وسلم. ذكره النحاس.

قوله تعالى: { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ } قيل: المراد به سجود تلاوة القرآن. وهو قول ٱبن مسعود. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقد تقدّم أوّل السورة من حديث ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سجد فيها وسجد معه المشركون. وقيل: إنما سجد معه المشركون لأنهم سمعوا أصوات الشياطين في أثناء قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قوله: { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ. وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } وأنه قال: تلك الغَرَانِيقُ الْعُلاَ وشفاعتهنّ تُرْتَجَى. كذا في رواية سعيد بن جُبير ترتجى. وفي رواية أبي العالية وشفاعتهنّ ترتضى، ومثلهنّ لا يُنٰسى. ففرح المشركون وظنوا أنه من قول محمد صلى الله عليه وسلم على ما تقدّم بيانه في «الحج». فلما بلغ الخبر بالحبشة مَن كان بها من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم رجعوا ظنًّا منهم أنّ أهل مكة آمنوا؛ فكان أهل مكة أشدّ عليهم وأخذوا في تعذيبهم إلى أن كشف الله عنهم. وقيل: المراد سجود الفرض في الصلاة وهو قول ٱبن عمر؛ كان لا يراها من عزائم السجود. وبه قال مالك. وروى أبيّ ابن كعب رضي الله عنه: كان آخر فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصّل. والأوّل أصح وقد مضى القول فيه آخر «الأعراف» مبيناً والحمد لله رب العالمين. تم تفسير سورة «والنجم».