التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ
٥٠
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ
٥١
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ
٥٢
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ
٥٣
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ
٥٤
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ
٥٥
-القمر

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ } أي إلا مرةً واحدة. { كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } أي قضائي في خلْقي أسرع من لمَحْ البصر. واللَّمح النظر بالعَجَلة؛ يقال: لمَحَ البرق ببصره. وفي الصحاح: لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف، والاسم اللمحة، ولمَحَ البَرقُ والنجمُ لمَحْاً أي لمَع.

قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ } أي أشباهكم في الكفر من الأمم الخالية. وقيل: أتباعكم وأعوانكم. { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي من يتذكر.

قوله تعالى: { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي ٱلزُّبُرِ } أي جميع ما فعلته الأمم قبلهم من خير أو شر كان مكتوباً عليهم؛ وهذا بيان قوله: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }. { فِي ٱلزُّبُرِ } أي في اللوح المحفوظ. وقيل: في كتب الحفظة. وقيل: في أم الكتاب. { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } أي كل ذنب كبير وصغير مكتوب على عامله قبل أن يفعله ليجازى به، ومكتوب إذا فعله؛ سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْراً كَتَب؛ وٱستطَرَ مثله.

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضاً. «وَنَهَرٍ» يعني أنهار الماء والخمر والعسل واللّبن؛ قاله ٱبن جريج. ووحد لأنه رأس الآية، ثم الواحد قد ينبىء عن الجميع. وقيل: في «نَهَرٍ» في ضياء وسَعة؛ ومنه النهار لضيائه، ومنه أنهرت الجرح؛ قال الشاعر:

مَلكتُ بها كَفي فأنهرتُ فَتقَهايَرَى قائمٌ من دونها ما وراءَها

وقرأ أبو مِجْلَز وأبو نهيك والأعرج وطلحة بن مصرِّف وقتادة «وَنُهُرٍ» بضمتين كأنه جمع نهار لا ليل لهم؛ كسحاب وسُحُب. قال الفراء: أنشدني بعض العرب:

إِنْ تَكُ ليليًّا فإنِّي نَهِرُمَتَى أَرى الصُّبحَ فلا أَنتَظِرُ

أي صاحب النهار. وقال آخر:

لَوْلا الثَّرِيدَانِ هَلَكْنا بالضُّمُرْثَرِيدُ ليْلٍ وثَريدٌ بالنُّهُرْ

{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } أي مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } أي يقدر على ما يشاء. و «عِنْدَ» هاهنا عندية القُربة والزلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال الصادق: مدح الله المكان الصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق. وقرأ عثمان البَتِّي «فيِ مَقَاعِدِ صِدْقٍ» بالجمع؛ والمقاعد مواضع قعود الناس في الأسواق وغيرها. قال عبد الله بن بريدة: إن أهل الجنة يدخلون كل يوم على الجبار تبارك وتعالى، فيقرؤون القرآن على ربهم تبارك وتعالى، وقد جلس كل إنسان مجلسه الذي هو مجلسه، على منابر من الدرّ والياقوت والزبرجد والذّهب والفضَّة بقدر أعمالهم، فلا تَقَرّ أعينهم بشيء قط كما تَقَرّ بذلك، ولم يسمعوا شيئاً أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى منازلهم، قريرة أعينهم إلى مثلها من الغد. وقال ثور بن يزيد عن خالد بن مَعْدان: بلغنا أن الملائكة يأتون المؤمنين يوم القيامة فيقولون: يا أولياء الله ٱنطلقوا؛ فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة؛ فيقول المؤمنون: إنكم تذهبون بنا إلى غير بُغْيتنا. فيقولون: فما بغيتكم؟ فيقولون: مقعد صدق عند مليك مقتدر. وقد روي هذا الخبر على الخصوص بهذا المعنى؛ ففي الخبر: أن طائفة من العقلاء بالله عز وجل تزفها الملائكة إلى الجنة والناس في الحساب، فيقولون للملائكة: إلى أين تحملوننا؟ فيقولون إلى الجنة. فيقولون: إنكم لتحملوننا إلى غير بغيتنا؛ فيقولون: وما بغيتكم؟ فيقولون: المقعد الصدق مع الحبيب كما أخبر { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }. والله أعلم.