التفاسير

< >
عرض

ٱلرَّحْمَـٰنُ
١
عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ
٢
خَلَقَ ٱلإِنسَانَ
٣
عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ
٤
ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ
٥
وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ
٦
وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ
٧
أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ
٨
وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ
٩
وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ
١٠
فِيهَا فَاكِهَةٌ وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ
١١
وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ
١٢
فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٣
-الرحمن

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ٱلرَّحْمَـٰنُ. عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } قال سعيد بن جبير وعامر الشَّعْبي: { ٱلرَّحْمَـٰنُ } فاتحة ثلاث سور إذا جُمعن كن ٱسماً من أسماء الله تعالى «الۤر» و «حۤم» و «نۤ» فيكون مجموع هذه { ٱلرَّحْمَـٰنُ. عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } أي علّمه نبيّه صلى الله عليه وسلم حتى أدّاه إلى جميع الناس. وأنزلت حين قالوا: وَمَا الرَّحْمٰنُ؟ وقيل: نزلت جواباً لأهل مكة حين قالوا: إنما يعلّمه بشر وهو رحمٰن اليمامة؛ يعنون مسيلِمة الكذّاب، فأنزل الله تعالى: { ٱلرَّحْمَـٰنُ } { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } وقال الزجاج: معنى «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» أي سهّله لأن يُذكر ويُقرأ كما قال: { { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } .[القمر:17] وقيل: جعله علامة لما تعبد الناس به. { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } قال ٱبن عباس وقتادة والحسن يعني آدم عليه السلام. { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } أسماء كل شيء. وقيل: علمه اللغات كلها. وعن ٱبن عباس أيضاً وٱبن كيسان: الإنسان هاهنا يراد به محمد صلى الله عليه وسلم والبيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلال. وقيل: ما كان وما يكون؛ لأنه بَيّن عن الأوّلين والآخرين ويوم الدِّين. وقال الضحاك: «البيان» الخير والشر. وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه وما يضره؛ وقاله قتادة. وقيل: «الإنْسَانَ» يراد به جميع الناس فهو ٱسم للجنس و «الْبَيَانَ» على هذا الكلامُ والفهم، وهو مما فُضّل به الإنسان على سائر الحيوان. وقال السديّ: علّم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. وقال يمان: الكتابة والخط بالقلم. نظيره: { { عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ. عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } .[العلق:4-5] { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي يجريان بحساب معلوم فأضمر الخبر. قال ٱبن عباس وقتادة وأبو مالك: أي يجريان بحساب في منازل لا يعدوانها ولا يحيدان عنها. وقال ٱبن زيد وٱبن كيسان: يعني أن بهما تحسب الأوقات والآجال والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يَحسب شيئاً لو كان الدهر كلّه ليلاً أو نهاراً. وقال السديّ: «بِحُسْبَانٍ» تقدير آجالهما أي تجري بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا؛ نظيره: { { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } .[الزمر:5] وقال الضحاك: بقدر. مجاهد: «بِحُسْبَانٍ» كحسبان الرَّحَى يعني قطبها يدوران في مثل القطب. والحُسْبان قد يكون مصدر حَسَبته أحْسُبُه بالضم حَسْباً وحُسْباناً، مثل الغُفْران والكُفْران والرُّجْحان، وِحسابة أيضاً أي عددته. وقال الأخفش: ويكون جماعة الحساب مثل شِهاب وشُهبان. والحُسْبان أيضاً بالضم العذاب والسهام القصار، وقد مضى في «الكهف» الواحدة حُسْبانة، والحُسْبانة أيضاً الوسادة الصغيرة؛ تقول منه: حَسَّبتُه إذا وسَّدْته؛ قال:

... لَثَوَيْـتَ غيـر مُحَسَّـب

أي غير موسَّد يعني غير مكَرَّم ولا مكَفَّن { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } قال ٱبن عباس وغيره: النجم ما لا ساق له والشجر ما له ساق، وأنشد ٱبن عباس قول صفوان بن أسد التميمي:

لَقَد أَنْجَمَ الْقَاعُ الكَبيرُ عِضَاهَهوتَمَّ به حيّاً تَميم ووَائلِ

وقال زهير بن أبي سُلْمى:

مُكَلَّلٌ بأُصولِ النَّجْم تَنْسِجُهريحُ الجَنوبِ لِضاحِي مائه حُبُكُ

واشتقاق النجم من نَجَم الشيءُ ينجُم بالضم نجوماً ظهر وطلع، وسجودهما بسجود ظلالهما؛ قاله الضحاك. وقال الفرّاء: سجودهما أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ثم يميلان معها حتى ينكسر الفيء. وقال الزجاج: سجودهما دوران الظل معهما، كما قال تعالى: { { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } [النحل:48]. وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء، وسجوده في قول مجاهد دوران ظله، وهو ٱختيار الطبري، حكاه المهدوي. وقيل: سجود النجم أفوله، وسجود الشجر إمكان الاجتناء لثمرها، حكاه الماوردي. وقيل: إن جميع ذلك مسخر لله، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصابئين النجوم، وعبد كثير من العجم الشجر. والسجود الخضوع، والمعنىّ به آثار الحدوث، حكاه القشيري. النحاس: أصل السجود في اللغة الاستسلام والانقياد لله عز وجل، فهو من الموات كلها ٱستسلامها لأمر الله عز وجل وٱنقيادها له، ومن الحيوان كذلك ويكون من سجود الصلاة، وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم قال:

فباتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مَسْتَحيرةسَرِيعٍ بأَيْدي الآكِلينَ جُمُودُهَا

{ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } وقرأ أبو السمَّال «والسَّمَاءُ» بالرفع على الابتداء وٱختار ذلك لما عطف على الجملة التي هي: { وَٱلنَّجْمُ وَٱلشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } فجعل المعطوف مركباً من مبتدإ وخبر كالمعطوف عليه. الباقون بالنصب على إضمار فعل يدل عليه ما بعده. { وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } أي العدل؛ عن مجاهد وقتادة والسدي، أي وضع في الأرض العدل الذي أمر به، يقال: وضع الله الشريعة. ووضع فلان كذا أي ألقاه؛ وقيل: على هذا الميزان القرآن، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه وهو قول الحسين بن الفضل. وقال الحسن وقتادة ـ أيضاً ـ والضحاك: هو الميزان ذو اللسان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل، يدل عليه قوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } والقسط العدل. وقيل: هو الحكم. وقيل: أراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. وأصل مِيزان مِوزان وقد مضى في «الأعراف» القول فيه. { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي ٱلْمِيزَانِ } موضع «أَنْ» يجوز أن يكون نصباً على تقدير حذف حرف الجرّ كأنه قال: لئلا تطغوا؛ كقوله تعالى: { { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } .[النساء:176] ويجوز ألا يكون لـ «أن» موضع من الإعراب فتكون بمعنى أي و «تَطْغَوْا» على هذا التقدير مجزوماً؛ كقوله تعالى: { { وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ } (أي امشوا). والطغيان مجاوزة الحدّ. فمن قال: الميزان العدل قال طغيانه الجور. ومن قال: إنه الميزان الذي يوزن به قال طغيانه البخس. قال ٱبن عباس: أي لا تخونوا من وزنتم له. وعنه أنه قال: يا معشر الموالي! وليتم أمرين بهما هلك الناس: المكيال والميزان. ومن قال إنه الحُكْم قال: طغيانه التحريف. وقيل: فيه إضمار؛ أي وضع الميزان وأمركم ألا تَطْغَوْا فيه. { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } أي ٱفعلوه مستقيماً بالعدل. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل. وقال ٱبن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب. وقال مجاهد: القسط العدل بالرومية. وقيل: هو كقولك أقام الصلاة أي أتى بها في وقتها، وأقام الناس أسواقهم أي أتوها لوقتها. أي لا تدعوا التعامل بالوزن بالعدل. { وَلاَ تُخْسِرُواْ ٱلْمِيزَانَ } ولا تنقصوا الميزان ولا تبخسوا الكيل والوزن، وهذا كقوله: { { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } .[هود:84] وقال قتادة في هذه الآية: ٱعدل يا بن آدم كما تحبّ أن يُعدَل لك، وأوف كما تحبّ أن يُوفّى لك؛ فإن العدل صلاح الناس. وقيل: المعنى ولا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة فيكون ذلك حسرة عليكم. وكرر الميزان لحال رؤوس الآي. وقيل: التكرير للأمر بإيفاء الوزن ورعاية العدل فيه. وقراءة العامة «تُخْسِرُوا» بضم التاء وكسر السين. وقرأ بلال بن أبي بُرْدة وأبان عن عثمان «تَخْسَرُوا» بفتح التاء والسين وهما لغتان، يقال: أخسرت الميزان وخسرته كأجبرته وجبرته. وقيل: «تَخْسَرُوا» بفتح التاء والسين محمول على تقدير حذف حرف الجرّ؛ والمعنى ولا تخسروا في الميزان. { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } الأنام الناس؛ عن ٱبن عباس. الحسن: الجنّ والإنس. الضحاك: كل ما دبّ على وجه الأرض، وهذا عام. { فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي كل ما يتفكه به الإِنسان من ألوان الثمار. { وَٱلنَّخْلُ ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } الأكمام جمع كِمٍّ بالكسر. قال الجوهري: والكِمَّة بالكسر والكِمَامة وعاء الطلع وغِطاء النَّوْر والجمع كِمَام وأَكِمَّة وأَكْمَام والأكاميم أيضاً. وكُمَّ الفصيلُ إذا أُشفق عليه فَسُتِر حتى يَقْوَى؛ قال العجاج:

بَلْ لَوْ شَهِدْتَ الناسَ إذْ تُكُمُّوابغُمَّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا

وتُكُمُّوا أي أغمي عليهم وغُطُّوا. وأَكَمَّت النَّخلةُ وكَمَّمت أي أخرجت أكمامها. والكِمَام بالكسر والكِمَامة أيضاً ما يُكَمّ به فم البعير لئلا يَعضّ؛ تقول منه: بعير مكموم أي مَحْجوم. وكَمَّمت الشيء غّطيته. والكَمُّ ما ستر شيئاً وغطّاه؛ ومنه كُمُّ القميص بالضم والجمع أَكْمَام وكممة، مثل حُبّ وحِبَبَة. والكُمَّة القَلَنْسوة المدوَّرة؛ لأنها تغطِّي الرأس. قال:

فقلتُ لهمْ كِيلو بكُمَّةِ بعضِكُمْدَرَاهمَكُمْ إنِّي كذلك أَكْيَلُ

قال الحسن: { ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } أي ذات الليف فإن النخلة قد تُكَمّم بالليف، وكِمَامها ليفها الذي في أعناقها. ٱبن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتق. وقال عكرمة: ذات الأحمال. { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } الحبّ الحِنطة والشعير ونحوهما؛ والعصف التِّبْن؛ عن الحسن وغيره. مجاهد: ورق الشجر والزرع. ٱبن عباس: تِبْن الزرع وورقه الذي تَعصِفه الرياح. سعيد بن جبير: بَقْل الزرع أي أوّل ما ينبت منه؛ وقاله الفرّاء. والعرب تقول: خرجنا نَعصِف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يُدرِك. وكذا في الصحاح: وعَصَفتُ الزَّرعَ أي جززته قبل أن يُدرِك. وعن ٱبن عباس أيضاً: العصف ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس؛ نظيره: { { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } [الفيل: 6] الجوهري: وقد أَعصفَ الزرعُ، ومكان مُعْصِف أي كثير الزرع. قال أبو قيس بن الأَسْلت الأنصاريّ:

إذا جُمَادَى مَنَعَتْ قَطْرَهَازَانَ جَنَابِي عَطَنٌ مُعْصِفُ

والعَصْف أيضاً الكَسْب؛ ومنه قول الراجز:

بغيـرِ مـا عَصْـفٍ ولا ٱصْطِـرَافِ

وكذلك الاعتصاف. والعَصِيفة الورق المجتمع الذي يكون فيه السُّنْبل. وقال الهرويّ: والعصف والعَصِيفة ورق السُّنْبل. وحكى الثعلبي: وقال ٱبن السِّكِّيت تقول العرب لورق الزرع العصف والعَصِيفة والجِلُّ بكسر الجيم. قال عَلْقَمة بن عَبَدة:

تَسْقِي مَذَانِبَ قد مَالتْ عَصِيفَتُهَاحَدُورُها من أَتِيِّ الماءِ مَطْمُومُ

وفي الصحاح: والجِلُّ بالكسر قصب الزرع إذا حُصِد. والريحان الرزق؛ عن ٱبن عباس ومجاهد. الضحاك: هي لغة حِمْير. وعن ٱبن عباس أيضاً والضحاك وقتادة: أنه الريحان الذي يشمّ، وقاله ٱبن زيد. وعن ٱبن عباس أيضاً: أنه خضرة الزرع. وقال سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق. وقال الفراء: العصف المأكول من الزرع، والريحان ما لا يؤكل. وقال الكلبي: إن العصف الورق الذي لا يؤكل، والريحان هو الحبّ المأكول. وقيل: الريحان كل بقلة طيبة الريح سميت رَيْحاناً؛ لأن الإنسان يَراحُ لها رائحةً طيبة. أي يشمّ فهو فَعْلان رَوْحان من الرائحة؛ وأصل الياء في الكلمة واو قلب ياء للفرق بينه وبين الرُّوحانيّ وهو كل شيء له رُوح. قال ٱبن الأعرابي: يقال شيء رُوحاني ورُيحاني أي له روح. ويجوز أن يكون على وزن فَيْعَلان فأصله رَيْوَحان فأبدل من الواو ياء وأدغم كهَيِّن ولَيِّن، ثم ألزم التخفيف لطوله ولحاق الزائدتين الألفِ والنونِ، والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء الاهتزاز والحركة. وفي الصحاح: والرَّيحان نبت معروف؛ والريحان الرزق؛ تقول: خرجت أبتغي رَيْحَان اللَّهِ؛ قال النَّمِرُ بن تَوْلَب:

سلامُ الإلٰهِ ورَيْحَانُهُورَحْمَتُهُ وسَمَاءٌ دِرَرْ

وفي الحديث: "الولد من ريحان الله" . وقولهم: سبحانَ الله وريحانه، نصبوهما على المصدر يريدون تنزيهاً له وٱسترزاقاً. وأما قوله: { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } فالعصف ساق الزرع، والريحان ورقه؛ عن الفرّاء. وقراءة العامة { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ وَٱلرَّيْحَانُ } بالرفع فيها كلها على العطف على الفاكهة. ونصبها كلها ٱبن عامر وأبو حيوة والمغيرة عطفاً على الأرض. وقيل: بإضمار فعل، أي وخلق الحبّ ذا العصف والريحان؛ فمن هذا الوجه يحسن الوقف على «ذَاتُ الأَكْمَامِ». وجرّ حمزة والكسائي «الريحان» عطفاً على العصف؛ أي فيها الحب ذو العصفِ والريحانِ، ولا يمتنع ذلك على قول من جعل الريحان الرزق، فيكون كأنه قال: والحب ذو الرزق. والرزق من حيث كان العصف رزقاً؛ لأن العصف رزق للبهائم، والريحان رزق للناس، ولا شبهة فيه في قول من قال إنه الريحان المشموم.

قوله تعالى: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } خطاب للإنس والجنّ؛ لأن الأنام واقع عليهما. وهذا قول الجمهور، يدل عليه حديث جابر المذكور أول السورة، وخرجه الترمذي وفيه «لَلْجِنُّ أحسنُ منكم ردًّا». وقيل: لما قال: { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } و { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ } دل ذلك على أن ما تقدّم وما تأخر لهما. وأيضاً قال: { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلثَّقَلاَنِ } وهو خطاب للإنس والجنّ وقد قال في هذه السورة: { يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ }. وقال الجرجاني: خاطب الجنّ مع الإنس وإن لم يتقدّم للجنّ ذكر؛ كقوله تعالى: { { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } .[ص:32] وقد سبق ذكر الجنّ فيما سبق نزوله من القرآن، والقرآن كالسورة الواحدة؛ فإذا ثبت أنهم مكلّفون كالإنس خوطب الجنسان بهذه الآيات. وقيل: الخطاب للإنس على عادة العرب في الخطاب للواحد بلفظ التثنية؛ حسب ما تقدّم من القول في { { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } .[ق:24] وكذلك قوله:

قِفَا نَبْكِ...

و

خَلِيلَيَّ مُرَّابِي...

فأما ما بَعْدَ { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } و { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ } فإنه خطاب للإنس والجنّ، والصحيح قول الجمهور لقوله تعالى: { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } والآلاء النعم، وهو قول جميع المفسرين، واحدها إِلىً وألىً مثل مِعًى وعصاً، وإِلْيٌ وأَلْيٌ أربع لغات حكاها النحاس قال: وفي واحد { آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ } ثلاث تسقط منها المفتوحة الألف المسكنة اللام، وقد مضى في «الأعراف» و «النجم». وقال ٱبن زيد: إنها القدرة؛ وتقدير الكلام فبأيّ قدرة ربكما تكذّبان؛ وقاله الكلبي وٱختاره الترمذيّ محمد بن علي، وقال: هذه السورة من بين السور عَلَم القرآن، والعَلَم إمام الجند والجند تتبعه، وإنما صارت عَلَماً لأنها سورة صفة الملك والقدرة؛ فقال: { ٱلرَّحْمَـٰنُ } { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } فٱفتتح السورة بٱسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة العظمى من رحمانيته فقال: { ٱلرَّحْمَـٰنُ } { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } ثم ذكر الإنسان فقال: «خَلَقَ الإِنْسَانَ» ثم ذكر ما صنع به وما منّ عليه به، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر وسجود الأشياء مما نَجَم وشَجَر، وذكر رفع السماء ووضع الميزان وهو العدل، ووضع الأرض للأنام؛ فخاطب هذين الثقلين الجنّ والإنس حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ولا حاجة إلى ذلك، فأشركوا به الأوثان وكل معبود ٱتخذوه من دونه، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم، فقال سائلاً لهم: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي بأيّ قدرة ربكما تكذبان، فإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من ملكه وقدرته شريكاً يملك معه ويقدر معه، فذلك تكذيبهم. ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال، وذكر خلق الجانّ من مارج من نار، ثم سألهم فقال: { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي بأيّ قدرة ربّكما تكذبان؛ فإن له في كل خلق بعد خلق قدرة بعد قدرة؛ فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد والمبالغة في التقرير، وٱتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلقٍ خلقٍ. وقال القُتَبيّ: إن الله تعالى عدّد في هذه السورة نعماءه، وذكّر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خَلَّة وصفها ونعمة وضعها بهذه، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها؛ كما تقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره: ألم تكن فقيراً فأغنيتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن خاملاً فعززتك أفتنكر هذا؟! ألم تكن صَرُورة فحججت بك أفتنكر هذا؟! ألم تكن راجلاً فحملتك أفتنكر هذا؟! والتكرير حَسن في مثل هذا. قال:

كَمْ نِعْمَةٍ كانتْ لَكُمْ كَمْ كَمْ وَكَمْ

وقال:

لا تَقْتُلِي مُسْلِماً إنْ كنتِ مُسْلِمَةًإيّاكِ مِنْ دَمِهِ إيَّاكِ إيَّاكِ

وقال آخر:

لا تَقطعنَّ الصديقَ ما طَرَفتْعيناكَ من قول كاشح أشِرِ
ولا تمَلَّنَّ من زيارته زُرْهُوزُرْهُ وزُرْ وزُرْ وزُرِ

وقال الحسين بن الفضل: التكرير طرداً للغفلة، وتأكيداً للحجة.