التفاسير

< >
عرض

إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ
١
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
٢
خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ
٣
إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً
٤
وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً
٥
فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً
٦
-الواقعة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } أي قامت القيامة، والمراد النفخة الأخيرة. وسميت واقعة لأنها تقع عن قرب. وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد. وفيه إضمار، أي ٱذكروا إذا وقعت الواقعة. وقال الجرجاني: «إِذا» صلة؛ أي وقعت الواقعة؛ كقوله: { { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ } [القمر:1] و { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } [النحل:1] وهو كما يقال: قد جاء الصوم أي دنا وٱقترب. وعلى الأوّل «إِذَا» للوقت، والجواب قوله: { فَأَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَـٰبُ ٱلْمَيْمَنَةِ }. { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } الكاذبة مصدر بمعنى الكذب، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر؛ كقوله تعالى: { { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [الغاشية:11] أي لغو، والمعنى لا يسمع لها كذب؛ قاله الكسائي. ومنه قول العامة: عائذاً بالله أي معاذ الله، وقم قائماً أي قم قياماً. ولبعض نساء العرب ترقِّصُ ٱبنها:

قُمْ قائماً قُمْ قَائمَاأصبت عبداً نائمَا

وقيل: الكاذبة صفة والموصوف محذوف، أي ليس لوقعتها حال كاذبة؛ أو نفس كاذبة؛ أي كل من يخبر عن وقعتها صادق. وقال الزجاج: «لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ» أي لا يردها شيء. ونحوه قول الحسن وقتادة. وقال الثوريّ: ليس لوقعتها أحد يكذّب بها. وقال الكسائيّ أيضاً: ليس لها تكذيب؛ أي ينبغي ألا يكذّب بها أحد. وقيل: إن قيامها جِدٌّ لا هزْلَ فيه.

قوله تعالى: { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } قال عِكرمة ومقاتل والسُّدِّي: خفضت الصوت فأسمعتْ من دنا ورفعتْ من نأى؛ يعني أسمعت القريب والبعيد. وقال السُّدِّي: خفضت المتكبرّين ورفعت المستضعفين. وقال قتادة: خفضت أقواماً في عذاب الله، ورفعت أقواماً إلى طاعة الله. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة. وقال محمد بن كعب: خفضت أقواماً كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقواماً كانوا في الدنيا مخفوضين. وقال ٱبن عطاء: خفضت أقواماً بالعدل، ورفعت آخرين بالفضل. والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة، والعز والمهانة. ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة توسُّعاً ومجازاً على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يكن منه الفعل؛ يقولون: ليلٌ نائمٌ ونهار صائم. وفي التنزيل: { { بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [سبأ:33] والخافض والرافع على الحقيقة إنما هو الله وحده؛ فرفع أولياءه في أعلى الدرجات، وخفض أعداءه في أسفل الدركات. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } بالنصب. الباقون بالرفع على إضمار مبتدإ، ومن نصب فعلى الحال. وهو عند الفراء على إضمار فعل؛ والمعنى: { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } ـ وقعت: { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ }. والقيامة لا شك في وقوعها، وأنها ترفع أقواماً وتضع آخرين على ما بيّناه.

قوله تعالى: { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } أي زُلزلت وحُركت عن مجاهد وغيره؛ يقال: رَجّه يَرُجّه رجًّا أي حركه وزلزله. وناقة رجّاءُ أي عظيمة السَّنَام. وفي الحديث: "مَنْ ركب البحرَ حين يَرْتَجُّ فلا ذِمَّةَ له" يعني إذا ٱضطربت أمواجه. قال الكلبيّ: وذلك أن الله تعالى إذا أوحى إليها ٱضطربت فَرَقاً من الله تعالى. قال المفسرون: تَرْتجُّ كما يَرتج الصبيّ في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها. وعن ٱبن عباس الرَّجَّة الحركة الشديدة يسمع لها صوت. وموضع «إِذَا» نصب على البدل من { إِذَا وَقَعَتِ }. ويجوز أن ينتصب بـ { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي تخفض وترفع وقت رجِّ الأرض وبسِّ الجبال؛ لأن عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض. وقيل: أي وقعت الواقعة إذا رجّت الأرض؛ قاله الزجاج والجرجاني. وقيل: أي ٱذكر { إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً } مصدر وهو دليل على تكرار الزلزلة.

قوله تعالى: { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } أي فتتت؛ عن ٱبن عباس. مجاهد: كما يُبَسُّ الدقيق أي يُلَتّ. والبسيسة السَّوِيق أو الدقيق يُلَتُّ بالسَّمن أو بالزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زاداً. قال الراجز:

لا تَخْبِزَا خُبْزاً وبُسَّا بَسًّاولا تُطِيلاَ بُمُنَاخٍ حَبْسَا

وذكر أبو عبيدة: أنه لصٌّ من غَطَفان أراد أن يخبز فخاف أن يُعجَل عن ذلك فأكله عجيناً. والمعنى أنها خُلِطت فصارت كالدقيق الملتوت بشيء من الماء. أي تصير الجبال تراباً فيختلط البعض بالبعض. وقال الحسن: وبُسَّت قلعت من أصلها فذهبت؛ نظيره: { { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } .وقال عطية: بُسطت كالرمل والتراب. وقيل: البسُّ السّوق أي سيقت الجبال. قال أبو زيد: البسّ السّوق؛ وقد بسستُ الإبل أبُسُّها بالضم بسًّا. وقال أبو عبيد: بسست الإبل وأبسست لغتان إذا زجرتها وقلت لها بَسْ بَسْ. وفي الحديث: "يخرج قوم من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يَبُسُّون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" ومنه الحديث الآخر: "جاءكم أهل اليمن يَبُسُّون عِيالهم" والعرب تقول: جِيءْ به من حَسِّك وبَسِّك. ورواهما أبو زيد بالكسر؛ فمعنى من حَسّك من حيث أحسسته، وبَسّك من حيث بلغه مسيرك. وقال مجاهد: سالت سيلاً. عكرمة: هُدَّت هدّاً. محمد بن كعب: سُيِّرت سيراً؛ ومنه قول الأغلب العجْليّ:

وقال الحسن: قطعت قطعاً. والمعنى متقارب.

قوله تعالى: { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } قال عليّ رضي الله عنه: الهباء المنبث الرّهج الذي يسطع من حوافر الدواب ثم يذهب، فجعل الله أعمالهم كذلك. وقال مجاهد: الهباء هو الشعاع الذي يكون في الكوّة كهيئة الغبار. وروي نحوه عن ٱبن عباس. وعنه أيضاً: هو ما تطاير من النار إذا ٱضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئاً. وقاله عطية. وقد مضى في «الفرقان» عند قوله تعالى: { وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } وقراءة العامة «مُنْبَثًّا» بالثاء المثلثة أي متفرقاً من قوله تعالى: { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } أي فرّق ونشر. وقرأ مسروق والنَّخَعيّ وأبو حَيْوة «مُنْبَتًّا» بالتاء المثناة أي منقطعاً من قولهم: بتّه الله أي قطعه؛ ومنه البتات.