التفاسير

< >
عرض

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ
١٧
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ
١٨
لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ
١٩
وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ
٢٠
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
٢١
وَحُورٌ عِينٌ
٢٢
كَأَمْثَالِ ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ
٢٣
جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢٤
لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً
٢٥
إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً
٢٦
-الواقعة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أي غلمان لا يموتون؛ قاله مجاهد. الحسن والكلبيّ: لا يَهْرَمون ولا يتغيرون؛ ومنه قول ٱمرىء القيس:

وهَلْ يَنْعَمنْ إِلاّ سَعِيدٌ مُخَلَّدٌقَلِيلُ الْهُمُومِ ما يَبِيتُ بِأَوجَالِ

وقال سعيد بن جبير: مُخلَّدون مُقرَّطون؛ يقال للقُرْط الخلَدَة ولجماعة الحُلِيّ الْخِلْدَة. وقيل: مسوّرون ونحوه عن الفراء؛ قال الشاعر:

ومخلَّداتٌ بِاللُّجينِ كَأَنَّمَاأعْجَازُهُنَّ أَقاوِزُ الْكُثْبَانِ

وقيل: مقرّطون يعني ممنطقون من المناطق. وقال عكرمة: «مُخَلَّدُونَ» منعَّمون. وقيل: على سنّ واحدة أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم كما شاء من غير ولادة. وقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري: الولدان ههنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغاراً ولا حسنة لهم ولا سيئة. وقال سلمان الفارسيّ: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع. والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة، والنعمة إنما تتم بآحتفاف الخدم والولدان بالإنسان. { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } أكواب جمع كوب وقد مضى في «الزخرف» وهي الآنية التي لا عُرى لها ولا خراطيم، والأباريق التي لها عُرى وخراطيم واحدها إبريق؛ سُمِّيَ بذلك لأنه يبرق لونه من صفائه. { وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } مضى في «والصافات» القول فيه. والمعين الجاري من ماء أو خمر؛ غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون. وقيل: الظاهرة للعيون فيكون «معين» مفعولاً من المعاينة. وقيل: هو فعيل من المَعْن وهو الكثرة. وبيّن أنها ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصر وتكلّف ومعالجة.

قوله تعالى: { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي لا تنصدع رؤوسهم من شربها؛ أي إنها لذة بلا أذًى بخلاف شراب الدنيا. { وَلاَ يُنزِفُونَ } تقدم في «والصافات» أي لا يسكرون فتذهب عقولهم. وقرأ مجاهد: { لاَّ يُصَدَّعُونَ } بمعنى لا يتصدّعون أي لا يتفرقون؛ كقوله تعالى: { { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [الروم:43]. وقرأ أهل الكوفة «يَنْزِفُونَ» بكسر الزاي؛ أي لا ينفد شرابهم ولا تفنى خمرهم؛ ومنه قول الشاعر:

لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفتُم أو صَحَوْتُمُلَبِئْسَ النَّدَامَى كُنتمُ آل أَبْجَرَا

وروى الضحاك عن ٱبن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السُّكْر والصُّداع والقيء والبول، وقد ذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال.

قوله تعالى: { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } أي يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها. وقيل: وفاكهة متخيرة مرضية، والتخير الاختيار. { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الكوثر؟ قال: ذاك نهر أعطانيه الله تعالى ـ يعني في الجنة ـ أشدّ بياضاً من اللبن، أحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزُر" قال عمر: إن هذه لناعِمةٌ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَكَلَتُها أحسنُ منها" قال: حديث حسن. وخرّجه الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة طيراً مثل أعناق البُخْت تصطفّ على يد وليّ الله فيقول أحدها يا وليّ اللَّهِ رَعيتُ في مُرُوج تحت العرش وشربت من عيون التَّسنيم فكُلْ منِّي فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فتخرّ بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطائر فطار يرعى في الجنة حيث شاء فقال عمر: يا نبيّ الله إنها لناعِمة. فقال: آكلُها أَنْعمُ منها" . وروي عن أبي سعيد الخدري أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة لطيراً في الطائر منها سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض فيخرج من كل ريشة لون طعام أبيض من الثلج وأبرد وألين من الزّبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه فيأكل منه ما أراد ثم يذهب فيطير" .

قوله تعالى: { وَحُورٌ عِينٌ } قرىء بالرفع والنصب والجر؛ فمن جر وهو حمزة والكسائي وغيرهما جاز أن يكون معطوفاً على { بِأَكْوَابٍ } وهو محمول على المعنى؛ لأن المعنى يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحُور؛ قاله الزجاج. وجاز أن يكون معطوفاً على «جَنَّاتِ» أي هم في «جَنَّاتِ النَّعِيمِ» وفي حور على تقدير حذف المضاف؛ كأنه قال: وفي معاشرة حور. الفراء: الجر على الإتباع في اللفظ وإن ٱختلفا في المعنى؛ لأن الحور لا يطاف بهن؛ قال الشاعر:

إذا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يوماًوزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والْعُيونَا

والعين لا تزجج وإنما تكحل. وقال آخر:

ورأيتُ زَوْجَكِ في الوغَىَمُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا

وقال قُطْرب: هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى. قال: ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور ويكون لهم في ذلك لذة. ومن نصب وهو الأشهب العقيلي والنّخعي وعيسى بن عمر الثّقَفي وكذلك هو في مصحف أُبَيّ، فهو على تقدير إضمار فعل؛ كأنه قال: ويزوّجون حُوراً عِيناً. والحمل في النصب على المعنى أيضاً حسن؛ لأن معنى يطاف عليهم به يُعطَونه. ومن رفع وهم الجمهور ـ وهو ٱختيار أبي عبيد وأبي حاتم ـ فعلى معنى وعندهم حور عين؛ لأنه لا يطاف عليهم بالحور. وقال الكسائي: ومن قال: { وَحُورٌ عِينٌ } بالرفع وعلّل بأنه لا يطاف بهنّ يلزمه ذلك في فاكهة ولحم؛ لأن ذلك لا يطاف به وليس يطاف إلا بالخمر وحدها. وقال الأخفش: يجوز أن يكون محمولاً على المعنى؛ لأن المعنى لهم أكواب ولهم حور عين. وجاز أن يكون معطوفاً على { ثُلَّةٌ } و { وَثُلَّةٌ } ٱبتداء وخبره { عَلَىٰ سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } وكذلك «وَحُورٌ عِينٌ» وٱبتدأ بالنكرة لتخصيصها بالصفة. { كَأَمْثَالِ } أي مثل أمثال { ٱللُّؤْلُؤِ ٱلْمَكْنُونِ } أي الذي لم تمسه الأيدي ولم يقع عليه الغبار فهو أشدّ ما يكون صفاء وتلألؤاً؛ أي هنّ في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن كما قال الشاعر:

كأَنَّمَا خُلِقَتْ في قِشْرِ لُؤْلُؤةٍفَكُلُّ أَكْنَافِها وَجْهٌ لِمِرْصادِ

{ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ثواباً ونصْبُه على المفعول له. ويجوز أن يكون على المصدر؛ لأن معنى { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } يجازون. وقد مضى الكلام في الحور العين في «والطور» وغيرها. وقال أنس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "خلق الله الحور العين من الزعفران" وقال خالد بن الوليد: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل من أهل الجنة ليمسك التفاحة من تفاح الجنة فتنفلق في يده فتخرج منها حوراء لو نظرت للشمس لأخجلت الشمس من حسنها من غير أن ينقص من التفاحة" فقال له رجل: يا أبا سليمان إن هذا لعجبٌ ولا ينقص من التفاحة؟ قال: نعم كالسِّراج الذي يوقد منه سِراج آخر وسُرج ولا ينقص، والله على ما يشاء قدير. وروي عن ٱبن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض، عليها سبعون ألف حُلَّة مثل شقائق النعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها نوراً ساطعاً كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا أدبرت يرى كبدها من رقّة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر، لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهي تنادي: هذا ثواب الأولياء { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.

قوله تعالى: { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } قال ٱبن عباس: باطلاً ولا كذباً. واللغو ما يُلغى من الكلام، والتأثيم مصدر أَثَّمْته أي قلت له أثمت. محمد بن كعب: { وَلاَ تَأْثِيماً } أي لا يؤثِّم بعضُهم بعضاً. مجاهد: { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } شتماً ولا مأثماً. { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } «قِيلاً» منصوب بـ «ـيَسْمَعُونَ» أو ٱستثناء منقطع أي لكن يقولون قِيلاً أو يسمعون. و { سَلاَماً سَلاَماً } منصوبان بالقول؛ أي إلا أنهم يقولون الخير. أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض سلاماً. أو يكون وصفاً لـ «ـقيلا»، والسلام الثاني بدل من الأول، والمعنى إلا قيلاً يسلم فيه من اللغو. ويجوز الرفع على تقدير سلام عليكم. قال ٱبن عباس: أي يحيِّي بعضهم بعضاً. وقيل: تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل.