قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ } لتحيوا به أنفسكم، وتسكنوا به عطشكم، لأن الشراب إنما يكون تبعاً للمطعوم، ولهذا جاء الطعام مقدماً في الآية قبلُ، ألا ترى أنك تسقي ضيفك بعد أن تطعمه. الزمخشري: ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:
إذا سُقِيَتْ ضُيوفُ الناسِ مَحْضاًسَقَوْا أضيافَهمْ شَبِماً زُلاَلاَ
وسُقِي بعضُ العرب فقال: أنا لا أشرب إلا على ثَمِيلة. { أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ } أي السَّحاب، الواحدة مُزْنة؛ فقال الشاعر:فنحنُ كماءِ الْمُزْنِ ما في نِصَابِنَاكَهَامٌ ولا فينا يُعَدُّ بَخِيلُ
وهذا قول ٱبن عباس ومجاهد وغيرهما أن المُزْن السَّحاب. وعن ٱبن عباس أيضاً والثوري: المُزْن السّماء والسّحاب. وفي الصّحاح: أبو زيد: المُزْنة السّحابة البيضاء والجمع مُزْن، والمُزْنة المَطْرَة؛ قال:ألم تَرَ أن الله أَنْزَلَ مُزْنةًوعُفْرُ الظِّبَاءِ في الكِنَاسِ تَقَمَّعُ
{ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } أي فإذا عرفتم بأني أنزلته فَلِمَ لا تشكروني بإخلاص العبادة لي؟ ولَمِ تنكرون قدرتي على الإعادة؟. { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } أي ملحاً شديد الملوحة؛ قاله ٱبن عباس. الحسن: مرًّا قُعَاعاً لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما. { فَلَوْلاَ } أي فهلاّ تشكرون الذي صنع ذلك بكم. قوله تعالى: { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ } أي أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقَدْح من الشجر الرَّطْب { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ } يعني التي تكون منها الزِّناد وهي المَرْخُ والعَفَار؛ ومنه قولهم: في كلّ شجرٍ نار، وٱسْتَمْجدَ المَرْخُ والعَفَار؛ أي ٱستكثر منها، كأنهما أخذا من النار ما هو حَسْبهما. ويقال: لأنهما يُسِرعان الْوَرْيَ. يقال: أوْرَيت النار إذا قدحتها. وورَى الزَّنَدُ يَرِى إذا ٱنقدح منه النار. وفيه لغة أخرى: ووَرِي الزَّندُ يَرِى بالكسر فيهما. { أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } أي المخترعون الخالقون؛ أي فإذا عرفتم قدرتي فٱشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث.
قوله تعالى: { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } يعني نار الدنيا موعظة للنار الكبرى؛ قاله قتادة. ومجاهد: تبصرة للناس من الظلام. وصح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم فقالوا يا رسول الله: أن كانت لكافية؛ قال: فإنها فضَلَت عليها بتسعة وستين جُزْءاً كلّهنّ مثل حَرِّها" . { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } قال الضحاك: أي منفعة للمسافرين؛ سمّوا بذلك لنزولهم القَوَى وهو القفر. الفراء: إنما يقال للمسافرين: مُقْوين إذا نزلوا القِيّ وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها. وكذلك القَوَى والقَوَاء بالمدّ والقصر، ومنزلٌ قَواء لا أنيس به؛ يقال: أَقْوت الدارُ وقَوِيت أيضاً أي خلت من سكانها؛ قال النابغة:يا دارَ مَيَّةَ بالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِأَقْوَتْ وطال عَليها سَالفُ الأَمَدِ
وقال عنترة:حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُأَقْوَى وَأَقْفَر بَعد أُمِّ الْهَيْثَمِ
ويقال: أَقْوَى أي قَوِي وقَوِي أصحابه، وَأَقوى إذا سافر أي نزل القَوَاء والقِيّ. وقال مجاهد: { لِّلْمُقْوِينَ } المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها. وقال ٱبن زيد: للجائعين في إصلاح طعامهم. يقال: أقويت منذ كذا وكذا، أي ما أكلت شيئاً، وبات فلان القَواء وبات القفرَ إذا بات جائعاً على غير طُعْم؛ قال الشاعر:وإنِّي لأختارُ القَوَى طَاوِيَ الحَشَىمحَافَظَةً من أَنْ يقالَ لَئِيمُ
وقال الربيع والسدي: { الْمُقوِينَ } المنزلين الذين لا زناد معهم؛ يعني ناراً يوقدون فيختبزون بها؟ ورواه العوفي عن ٱبن عباس. وقال قُطْرب: المُقْوِي من الأضداد يكون بمعنى الفقير ويكون بمعنى الغني؛ يقال: أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. المهدوي: والآية تصلح للجميع؛ لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير. وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على القول الأوّل. القشيري: وخص المسافر بالانتفاع بها لأن ٱنتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم؛ لأن أهل البادية لا بد لهم من النار يوقدونها ليلاً لتهرب منهم السّباع، وفي كثير من حوائجهم. قوله تعالى: { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } أي فنزّه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد، والعجز عن البعث.