التفاسير

< >
عرض

أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ
٨١
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ
٨٢
فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ
٨٣
وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ
٨٤
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ
٨٥
فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ
٨٦
تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٨٧
-الواقعة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { أَفَبِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } يعني القرآن { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } أي مكذبون؛ قاله ٱبن عباس وعطاء وغيرهما. والمُدْهِن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبِّه بالدُّهن في سهوله ظاهره. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة: مُدْهِنون كافرون؛ نظيره: { { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [القلم:9]. وقال المؤرِّج: المدهِن المنافق أو الكافر الذي يُليِن جانبه ليُخْفِي كفره، والإدهان والمداهنة التكذيب والكفر والنفاق، وأصله اللِّين، وأن يُسِرَّ خلاف ما يظهر؛ وقال أبو قيس بن الأَسْلَت:

الحَزْمُ والْقُوَّةُ خيرٌ مِنَالإدهان والفَهَّةِ والهَاعِ

وأدهن وداهن واحد. وقال قوم: داهنت بمعنى واريت وأدهنت بمعنى غَشَشْتَ. وقال الضحاك: «مُدْهِنُونَ» معرضون. مجاهد: ممالئون الكفار على الكفر به. ٱبن كيسان: المدهن الذي لا يعقل ما حقّ اللَّهِ عليه ويدفعه بالعلل. وقال بعض اللغويين: مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن.

قوله تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال ٱبن عباس: تجعلون شكركم التكذيب. وذكر الهيثم بن عديّ: أن من لغة أزد شنوءة ما رِزق فلان؟ أي ما شكره. وإنما صلح أن يوضع ٱسم الرزق مكان شكره؛ لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه فيكون الشكر رزقاً على هذا المعنى. فقيل: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقاً لكم { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } بالرزق أي تضعون الكذب مكان الشكر؛ كقوله تعالى: { { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } [الأنفال:35] أي لم يكونوا يُصلُّون ولكنهم كانوا يصفِّرون ويُصفِّقون مكان الصلاة. ففيه بيان أن ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكن أسباباً، بل ينبغي أن يروه من قِبل الله تعالى، ثم يقابلونه بشكرٍ إن كان نعمة، أو صبرٍ إن كان مكروهاً تعبّداً له وتذلُّلاً. وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ «وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» حقيقة. وعن ٱبن عباس أيضاً: أن المراد به الاستسقاء بالأنواء، وهو قول العرب: مُطِرنا بنَوْء كذا؛ رواه عليّ بن أبي طالب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي صحيح مسلم " عن ٱبن عباس قال: مُطِر الناسُ على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافرٌ قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صَدَق نَوْءُ كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الآية: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } ـ حتى بلَغ ـ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }" . وعنه أيضاً: " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:أرأيتم إن دعوت الله لكم فسُقِيتم لعلكم تقولون هذا المطر بِنَوْء كذا فقالوا: يا رسول الله ما هذا بحين الأَنواء. فصلّى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمُطِروا؛ فمرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سُقِينا بِنَوْء كذا، ولم يقل هذا من رزق الله فنزلت: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }" أي شكركم لله على رزقه إياكم { أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } بالنعمة وتقولون سُقِينا بنَوْء كذا؛ كقولك: جعلَت إحساني إليك إساة منك إليّ، وجعلَت إنعامي لديك أن ٱتخذتني عدوًّا. وفي الموطأ " عن زيد بن خالد الجُهَنيّ أنه قال: صلىّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحُدَيْبِية على إثرِ سماء كانت من الليل، فلما ٱنصرف أَقْبَلَ على الناس وقال:أتدرون ماذا قال ربكم قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب فأما من قال مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مُطِرنا بنَوْء كذا وكذا فذلك مؤمن بالكوكب كافر بي" . قال الشافعيرحمه الله : لا أحبّ أحداً أن يقول مُطِرنا بنَوْء كذا وكذا، وإن كان النَّوْء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر ولا يحبس شيئاً من المطر، والذي أحبّ أن يقول: مُطِرنا وقت كذا كما تقول مُطِرنا شهر كذا، ومن قال: مُطِرنا بنَوْء كذا، وهو يريد أن النَّوْء أنزل الماء، كما عنى بعض أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب. وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حاكياً عن الله سبحانه: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" فمعناه عندي على وجهين: أما أحدهما فإن المعتقِد بأن النَّوْء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشىء للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفراً صريحاً يجب ٱستتابته عليه وقتله إن أبى لنبذه الإسلام ورده القرآن. والوجه الآخر أن يعتقد أن النَّوْء يُنزِل الله به الماءَ، وأنه سبب الماء على ما قدّره الله وسبق في علمه؛ وهذا وإن كان وجهاً مباحاً، فإن فيه أيضاً كفراً بنعمة الله عز وجل، وجهلاً بلطيف حكمته في أنه ينزل الماء متى شاء، مرة بنَوْء كذا، ومرة بَنْوء كذا، وكثيراً ما ينوء النَّوْء فلا ينزل معه شيء من الماء، وذلك من الله تعالى لا من النَّوْء. وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مُطِر: مطِرنا بنَوْء الفتح؛ ثم يتلو: { { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [فاطر:2] قال أبو عمر: وهذا عندي نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُطِرنا بفضل الله ورحمته" . ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبد المطلب حين ٱستسقى به: يا عمّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كم بقي من نَوْء الثريا؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعاً بعد سقوطها. فما مضت سابعة حتى مطروا؛ فقال عمر: الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته. وكأنّ عمررحمه الله قد علم أن نَوْء الثُّرَيا وقت يُرْجى فيه المطر ويؤمَّل فسأله عنه أخَرج أم بقيت منه بقية؟. وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً في بعض أسفاره يقول: مُطرنا ببعض عَثَانين الأسد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت بل هو سُقْيا الله عز وجل" قال سفيان: عَثَانين الأسد الذراع والجبهة. وقراءة العامة { تُكَذِّبُونَ } من التكذيب. وقرأ المفضّل عن عاصم ويحيـى بن وَثّاب «تَكْذِبُونَ» بفتح التاء مخففاً. ومعناه ما قدمناه من قول من قال: مطِرنا بنَوْء كذا. وثبت من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لن يزلن في أمتي التفاخر في الأحساب والنِّياحة والأَنْواء" ولفظ مسلم في هذا: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهنّ الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة" .

قوله تعالى: { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } أي فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الْحُلْقوم. ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن المعنى معروف؛ قال حاتم:

أَمَاوِيّ ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عنِ الفتىإذا حَشْرَجَتْ يَوْماً وضاقَ بِها الصَّدْرُ

وفي حديث: "إنّ مَلَك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئاً فشيئاً حتى ينتهي بها إلى الحُلْقوم فيتوفاها مَلَك الموت" . { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } أمري وسلطاني. وقيل: تنظرون إلى الميّت لا تقدرون له على شيء. وقال ٱبن عباس: يريد من حضر من أهل الميت ينتظرون متى تخرج نفسه. ثم قيل: هو ردٌّ عليهم في قولهم لإخوانهم { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [آل عمران:156] أي فهل ردّوا رُوح الواحد منهم إذا بلغت الحلقوم. وقيل: المعنى فهلاّ إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده، مع حرصكم على ٱمتداد عمره، وحبكم لبقائه. وهذا ردّ لقولهم: { { نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ } [الجاثية:24]. وقيل: هو خطاب لمن هو في النزع؛ أي إن لم يك ما بك من الله فهّلا حفظت على نفسك الروح. { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } أي بالقدرة والعلم والرؤية. قال عامر بن عبد القيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إليّ منه. وقيل: أراد ورسلنا الذين يتولَّون قبضه { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } { وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } أي لا ترونهم.

قوله تعالى: { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أي فهلاّ إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم؛ ومنه قوله تعالى: { { إِنَّا لَمَدِينُونَ } [الصافات:53] أي مجزيون محاسبون. وقد تقدم. وقيل: غير مملوكين ولا مقهورين. قال الفراء وغيره: دِنْتُه ملكته؛ وأنشد للحطيئة:

لقد دُيِّنْتِ أَمْرَ بَنِيكِ حَتَّىتَرَكْتِهمُ أَدَقَّ مِن الطَّحِينِ

يعني مُلِّكْتِ. ودانه أي أذله وٱستعبده؛ يقال: دنته فدان. وقد مضى في «الفاتحة» القول في هذا عند قوله تعالى: { يَوْمِ ٱلدِّينِ }. { تَرْجِعُونَهَآ } ترجعون الروح إلى الجسد. { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي ولن ترجعوها فبطل زعمكم أنكم غير مملوكين ولا محاسبين. و { تَرْجِعُونَهَآ } جواب لقوله تعالى: { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } ولقوله: { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أجيبا بجواب واحد؛ قاله الفراء. وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى: { { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة:38] أجيبا بجواب واحد وهما شرطان. وقيل: حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. وقيل: فيها تقديم وتأخير، مجازها: فلولا وهلاَّ إِن كنتم غير مَدِينِين تَرجِعونها؛ تردُّون نَفْس هذا الميّت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم.