التفاسير

< >
عرض

مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
١١
يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
-الحديد

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } ندب إلى الإنفاق في سبيل الله. وقد مضى في «البقرة» القول فيه. والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً: قد أقرض؛ كما قال:

وإذا جُوزِيتَ قَرْضاً فَٱجْزِهِإِنَّمَا يَجْزِي الفتى ليس الْجَمَلْ

وسمّي قرضاً؛ لأن القرض أخرج لاسترداد البدل. أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدِله الله بالأضعافِ الكثيرة. قال الكلبي: «قَرْضاً» أي صدقة «حَسَناً» أي محتسباً مِن قلبه بلا مَنٍّ ولا أذىً. { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقيل: القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إلٰه إلا الله والله أكبر؛ رواه سفيان عن ابي حيان. وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل. الحسن: التطوع بالعبادات. وقيل: إنه عمل الخير؛ والعرب تقول: لي عند فلان قرض صِدقٍ وقرض سوء. القشيري: والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسُّمعة، وأن يكون من الحلال. ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه؛ لقوله تعالى: { { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [البقرة:267] وأن يتصدق في حال يأمل الحياة؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال: "أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا" وأن يخفى صدقته؛ لقوله تعالى: { { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة:271] وألاّ يَمُنّ؛ لقوله تعالى: { { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [البقرة:264] وأن يستحقر كثير ما يعطي؛ لأن الدنيا كلها قليلة، وأن يكون من أحبّ أمواله؛ لقوله تعالى: { { لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران:92] وأن يكون كثيراً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الرقاب أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها" . { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } وقرأ ابن كثير وابن عامر «فَيُضَعِّفُه» بإسقاط الألف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة «فَيُضَاعِفهُ» بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصماً نصب الفاء. ورفع الباقون عطفاً على «يُقْرِضُ». وبالنصب جواباً على الاستفهام. وقد مضى في «البقرة» القول في هذا مستوفى: { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } يعني الجنة.

قوله تعالى: { يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } العامل في «يَوْمَ» { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } وفي الكلام حذف أي «وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» في «يَوْم تَرَى» فيه { ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم } أي يمضي على الصراط في قول الحسن، وهو الضياء الذي يمرون فيه { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي قدّامهم. { وَبِأَيْمَانِهِم } قال الفراء: الباء بمعنى في؛ أي في أيمانهم. أو بمعنى عن أي عن أيمانهم. وقال الضحاك: { نُورُهُم } هداهم { وَبِأَيْمَانِهِم } كتبهم؛ وٱختاره الطبري. أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم. فالباء على هذا بمعنى في. ويجوز على هذا أن يوقف على { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ولا يوقف إذا كانت بمعنى عن. وقرأ سهل بن سعد الساعدي وأبو حيوة «وبِإِيمانِهِم» بكسر الألف، أراد الإيمان الذي هو ضد الكفر. وعطف ما ليس بظرف على الظرف؛ لأن معنى الظرف الحال وهو متعلق بمحذوف. والمعنى يسعى كائناً { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } وكائناً «بِإيَمانِهِمْ»، وليس قوله: { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } متعلقاً بنفس «يَسْعَى». وقيل: أراد بالنور القرآن. وعن ٱبن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم؛ فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره على إبهام رجله فيطفأ مرة ويوقد أخرى. وقال قتادة: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مِن المؤمنين من يضيء نوره كما بين المدينة وعدنٍ أو ما بين المدينة وصنعاء ودون ذلك حتى يكون منهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه" قال الحسن: ليستضيئوا به على الصراط كما تقدم. وقال مقاتل: ليكون دليلاً لهم إلى الجنة. والله أعلم.

قوله تعالى: { بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } التقدير يقال لهم: { بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ } دخول جناتٍ. ولا بد من تقدير حذف المضاف؛ لأن البشرى حدث، والجنة عين فلا تكون هي هي. { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي من تحتهم أنهار اللبن والماء والخمر والعسل من تحت مساكنها. { خَالِدِينَ فِيهَا } حال من الدخول المحذوف؛ التقدير «بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ» دخول جناتٍ { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } مقدرين الخلود فيها ولا تكون الحال من بشراكم؛ لأن فيه فصلاً بين الصلة والموصول. ويجوز أن يكون مما دل عليه البشرى، كأنه قال: تبشرون خالدين. ويجوز أن يكون الظرف الذي هو «الْيَوْمَ» خبراً عن «بُشْرَاكُمُ» و «جَنَّاتٌ» بدلاً من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم. و «خَالِدِينَ» حال حسب ما تقدم. وأجاز الفراء نصب «جَنَّات» على الحال على أن يكون «الْيَوْمَ» خبراً عن «بُشْرَاكُمُ» وهو بعيد؛ إذ ليس في «جَنَّات» معنى الفعل. وأجاز أن يكون «بُشْرَاكُمُ» نصباً على معنى يبشرونهم بشرى وينصب «جنات» بالبشرى وفيه تفرقة بين الصلة والموصول.