التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ
١٣
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
١٤
فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٥
-الحديد

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ } العامل في «يَوْمَ» { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }. وقيل: هو بدل من اليوم الأول. { ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ } قراءة العامة بوصل الألف مضمومة الظاء من نظر؛ والنظر الانتظار أي ٱنتظرونا. وقرأ الأعمش وحمزة ويحيـى بن وثّاب «أَنْظِرُونَا» بقطع الألف وكسر الظاء من الإنظار. أي أمهلونا وأخرونا؛ أنظرته أخرته، وٱستنظرته أي ٱستمهلته. وقال الفراء: تقول العرب: أنظِرني ٱنتظرني؛ وأنشد لعمرو بن كُلْثوم:

أبا هِندٍ فلا تَعْجلْ عَلَيْنَاوأَنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ الْيقِينَا

أي ٱنتظرنا. { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } أي نستضيء من نوركم. قال ٱبن عباس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة ـ قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء ـ ثم يعطون نوراً يمشون فيه. قال المفسرون: يعطي الله المؤمنين نوراً يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضاً نوراً خديعةً لهم؛ دليله قوله تعالى: { { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء:142]. وقيل: إنما يعطون النور؛ لأن جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه؛ قاله ٱبن عباس. وقال أبو أمامة: يعطي المؤمن النور ويترك الكافر والمنافق بلا نور. وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور، فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحاً وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين؛ فذلك قوله تعالى: { رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } يقوله المؤمنون؛ خشية أن يُسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين: { ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ }. { قِيلَ ٱرْجِعُواْ ورَاءَكُمْ } أي قالت لهم الملائكة «ٱرْجِعُوا». وقيل: بل هو قول المؤمنين لهم { ٱرْجِعُواْ وَرَاءَكُم } إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فاطلبوا هنالك لأنفسكم نوراً فإنكم لا تقتبسون من نورنا. فلما رجعوا وانعزلوا في طلب النور { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ }، وقيل: أي هلاّ طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا. «بِسُورٍ» أي سُورٌ؛ والباء صلة. قاله الكسائي. والسُّور حاجز بين الجنة والنار. وروي أن ذلك السُّور ببيت المَقْدس عند موضع يعرف بوادي جهنم. { بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ } يعني ما يلي منه المؤمنين { وَظَاهِرُهُ مِن قِبِلِهِ ٱلْعَذَاب } يعني ما يلي المنافقين. قال كعب الأحبار: هو الباب الذي ببيت المقدس المعروف بباب الرحمة. وقال عبد الله بن عمرو: إنه سُور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد { وَظَاهِرُهُ مِن قِبِلِهِ ٱلْعَذَاب } يعني جهنم. ونحوه عن ٱبن عباس. وقال زياد ابن أبي سوادة: قام عبادة بن الصامت على سُور بيت المقدس الشرقي فبكى، وقال: من ههنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وقال قتادة: هو حائط بين الجنة والنار «بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ» يعني الجنة { وَظَاهِرُهُ مِن قِبِلِهِ ٱلْعَذَاب } يعني جهنم. وقال مجاهد: إنه حجاب كما في «الأعراف» وقد مضى القول فيه. وقد قيل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.

قوله تعالى: { يُنَادُونَهُمْ } أي ينادي المنافقون المؤمنين { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } في الدنيا يعني نصلي مثل ما تصلون، ونغزو مثل ما تغزون، ونفعل مثل ما تفعلون { قَالُواْ بَلَىٰ } أي يقول المؤمنون «بَلَى» قد كنتم معنا في الظاهر { وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } أي ٱستعملتموها في الفتنة. وقال مجاهد: أهلكتموها بالنفاق. وقيل: بالمعاصي؛ قاله أبو سنان. وقيل: بالشهوات واللذات؛ رواه أبو نمير الهمْداني. { وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ } أي «تَرَبَّصْتُمْ» بالنبيّ صلى الله عليه وسلم الموت، وبالمؤمنين الدوائر. وقيل: «تَرَبَّصْتُمْ» بالتوبة { وَٱرْتَبْتُمْ } أي شككتم في التوحيد والنبوة { وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ } أي الأباطيل. وقيل: طول الأمل. وقيل: هو ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين ونزول الدوائر بهم. وقال قتادة: الأماني هنا خدع الشيطان. وقيل: الدنيا؛ قاله عبد الله بن عباس. وقال أبو سنان: هو قولهم سَيُغْفَر لنا. وقال بلال بن سعد: ذكرك حسناتِك ونسيانك سيئاتِك غِرّةً. { حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ } يعني الموت. وقيل: نصرة نبيِّه صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: إلقاؤهم في النار. { وَغَرَّكُم } أي خدعكم { بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } أي الشيطان؛ قاله عكرمة. وقيل: الدنيا؛ قاله الضحاك. وقال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبراً، وللآخر بالأول مزدجراً، والسعيد من لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الخُدَع، ومن ذكر المنيّة نسي الأمنيّة، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل. وجاء «الْغَرُورُ» على لفظ المبالغة للكثرة. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السَّمَيْقَع وسِمَاك بن حرب «الغُرُورُ» بضم الغين يعني الأباطيل وهو مصدر. وعن ٱبن عباس: "أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خطّ لنا خطوطاً، وخطّ منها خطًّا ناحية فقال: أتدرون ما هذا؟ هذا مثل ٱبن آدم ومثل التمني وتلك الخطوط الآمال بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت" . وعن ٱبن مسعود قال: " خطّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا مربعاً، وخطّ وسطه خطًّا وجعله خارجاً منه، وخطّ عن يمينه ويساره خطوطاً صغاراً فقال: هذا ٱبن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله وهذه الخطوط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا" .

قوله تعالى: { فَٱلْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } أيها المنافقون { وَلاَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أيأسهم من النجاة. وقراءة العامة { يُؤْخَذُ } بالياء؛ لأن التأنيث غير حقيقي؛ ولأنه قد فصل بينها وبين الفعل. وقرأ ٱبن عامر ويعقوب «تُؤْخَذُ» بالتاء وٱختاره أبو حاتم لتأنيث الفدية. والأوّل ٱختيار أبي عبيد؛ أي لا يقبل منكم بدل ولا عوض ولا نفس أخرى. { مَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أي مقامكم ومنزلكم { هِيَ مَوْلاَكُمْ } أي أَوْلى بكم، والمولى من يتولى مصالح الإنسان، ثم ٱستعمل فيمن كان ملازماً للشيء. وقيل: أي النار تملك أمرهم؛ بمعنى أن الله تبارك وتعالى يُرَكِّب فيها الحياة والعقل فهي تتميز غيظاً على الكفار، ولهذا خوطبت في قوله تعالى: { { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ق:30]. { وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }. أي ساءت مرجعاً ومصيراً.