التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
١٦
ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٧
-الحديد

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } أي يقرب ويحين، قال الشاعر:

أَلَمْ يَأَنِ ليِ يَا قَلْبُ أَنْ أَتْركَ الْجَهْلاَوأن يُحْدِثَ الشَّيبُ المبينُ لنا عَقْلاَ

وماضيه أَنَى بالقصر يَأنى. ويقال: آن لك ـ بالمد ـ أن تفعل كذا يَئِين أَيْناً أي حان، مثل أَنَى لك وهو مقلوب منه. وأنشد ٱبن السِّكيت:

أَلَمَّا يئِنْ ليِ أَنْ تَجَلَّى عَمَايَتيِوأَقْصُرُ عن لَيْلَى بَلَى قَدْ أَنَى لِيَا

فجمع بين اللغتين، وقرأ الحسن «أَلَمَّا يَأْنِ» وأصلها «أَلَمْ» زيدت «ما» فهي نفي لقول القائل: قد كان كذا؛ و «لم» نفي لقوله: كان كذا. وفي صحيح مسلم عن ٱبن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } إلا أربع سنين. قال الخليل: العتاب مخاطبة الإِدلال ومذاكرة المَوْجِدة؛ تقول عاتبته معاتبة { أَن تَخْشَعَ } أي تذل وتلين { قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } " روي أن المزاح والضحِك كثر في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لما ترفَّهوا بالمدينة، فنزلت الآية؛ ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم:إن الله يستبطئكم بالخشوع فقالوا عند ذلك: خَشَعنا" . وقال ابن عباس: إن الله ٱستبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة فنزلت: { { الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ } [يوسف: 1-2] إلى قوله: { { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف:3] الآية؛ فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره وأنفع لهم، فكفّوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول فنزلت: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان. قال السديّ وغيره: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } بالظاهر وأسرّوا الكفر { أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ }. وقيل: نزلت في المؤمنين. قال سعد: قيل يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ } فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا فنزل: { { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ } [الزمر:23] فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } ونحوه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟ قال الحسن: ٱستبطأهم وهم أحبّ خلقه إليه. وقيل: هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لأنه قال عقيب هذا: «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى؛ إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيِّهم فقست قلوبهم.

قوله تعالى: { وَلاَ يَكُونُواْ } أي وألا يكونوا فهو منصوب عطفاً على { أَن تَخْشَعَ }. وقيل: مجزوم على النهي؛ مجازه ولا يكونن؛ ودليل هذا التأويل رواية رُوَيس عن يعقوب «لاَ تَكُونُوا» بالتاء؛ وهي قراءة عيسى وٱبن إسحاق. يقول: لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى؛ أعطوا التوراة والإنجيل فطالت الأزمان بهم. قال ٱبن مسعود: إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، فٱخترعوا كتاباً من عند أنفسهم ٱستحلّته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: أعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فآتركوهم وإلا فآقتلوهم. ثم ٱصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم، وقالوا: إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإن أبى قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد؛ فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة وجعلها في قَرْن وعلّقه في عنقه ثم لبس عليه ثيابه، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره، وقال: آمنت بهذا يعني المعلّق على صدره. فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين مِلّة؛ وخير مللهم أصحاب ذي القَرْن. قال عبد الله: ومن يعش منكم فسيرى منكراً، وبحَسْب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وقال مقاتل بن حيان: يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد وٱستبطؤوا بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع. وقيل: من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم. وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى. ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بُعِث النبيّ صلى الله عليه وسلم فآمنوا به، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فَسَّقهم اللَّهُ. وقال محمد بن كعب: كانت الصحابة بمكة مجدِبِين، فلما هاجروا أصابوا الرِّيف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا. وذكر ٱبن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس، قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وٱنظروا فيها ـ أو قال في ذنوبكم ـ كأنكم عبيد؛ فإنما الناس رجلان معافًى ومبتلًى، فآرحموا أهل البلاء، وٱحمدوا الله على العافية. وهذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وٱبن المبارك رحمهما الله تعالى: ذكر أبو المطرِّف عبد الرحمن بن مروان القَلاَنسيّ قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق، قال حدّثنا علي بن يعقوب الزيات، قال حدثنا إبراهيم بن هشام، قال حدثنا زكريا بن أبي أبان، قال حدثنا الليث بن الحرث قال حدّثنا الحسن بن داهر، قال سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده قال: كنت يوماً مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعاً بضرب العودِ والطُّنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين السَّحَر، وأراد سنان يغنِّي، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان ـ يعني العود الذي بيده ـ ويقول: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ } قلت: بلى واللَّه وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أوّل زهدي وتشميري. وبلغنا عن الشعر الذي أراد ٱبن المبارك أن يضرب به العود:

أَلَمْ يَأْنِ لي مِنك أن تَرْحَمَاوتَعْصِ العَواذِلَ واللُّوَّما
وتَرْثِي لصَبٍّ بكم مُغْرَمٌأقام على هجرِكم مَأْتَمَا
يَبِيتُ إِذا جَنَّهُ لَيْلُهُيُراعِي الكَواكِبَ والأَنْجُمَا
وماذا على الظَّبي لَوْ أنّهُأحَلّ مِن الوَصْلِ ما حَرَّمَا

وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلاً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ } فرجع القهقري وهو يقول: بلى والله قد آن! فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلاً يقطع الطريق. فقال الفضيل: أوّاه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.

قوله تعالى: { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يُحْيِـي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي «يُحْيِـي ٱلأَرْضَ» الجدبة «بَعْدَ مَوْتِهَا» بالمطر. وقال صالح المري: المعنى يلين القلوب بعد قساوتها. وقال جعفر بن محمد: يحييها بالعدل بعد الجور. وقيل: المعنى فكذلك يحيـي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالكفر والضلالة. وقيل: كذلك يحيـي الله الموتى من الأمم، ويميّز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه. { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله، وأنه لمحيي الموتى.