التفاسير

< >
عرض

ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَٰلِ وَٱلأَوْلَٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَٰهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماً وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٌ وَمَا ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ
٢٠
سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢١
-الحديد

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } وجه الاتصال أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفاً على نفسه من القتل، وخوفاً من لزوم الموت؛ فبين أن الحياة الدنيا منقضِية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى. و «ما» صلة تقديره: ٱعلموا أنّ الحياة الدنيا لعِب باطل ولهو فرحٍ ثم ينقضي. وقال قتادة: لعب ولهو: أكل وشرب. وقيل: إنه على المعهود من ٱسمه؛ قال مجاهد: كل لعب لهو. وقد مضى هذا المعنى في «الأنعام» وقيل: الَّلعب ما رَغَّب في الدنيا، واللَّهو ما ألهى عن الآخرة؛ أي شَغل عنها. وقيل: اللعب الاقتناء، واللهو النساء. { وَزِينَةٌ } الزينة ما يتزين به؛ فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة، وكذلك من تزين في غير طاعة الله. { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } أي يفخر بعضكم على بعض بها. وقيل: بالخلقة والقوة. وقيل: بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء. وفي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغى أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب" الحديث. وقد تقدم جميع هذا. { وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ } لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة. قال بعض المتأخرين: «لَعِبٌ» كلعب الصبيان «ولَهْوٌ» كلهو الفتيان «وَزِينَةٌ» كزينة النسوان «وَتَفَاخُرٌ» كتفاخر الأقران «وَتَكَاثُرٌ» كتكاثر الدُّهقان. وقيل: المعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء. وعن عليّ رضي الله عنه قال لعمّار: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح؛ فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المِسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال؛ والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها. ثم ضرب الله تعالى لها مثلاً بالزرع في غيث فقال: { كَمَثَلِ غَيْثٍ } أي مطر { أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } الكفّار هنا: الزرّاع لأنهم يغطّون البذر. والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشِيماً كأن لم يكن، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن. وقد مضى معنى هذا المثل في «يونس» و«الكهف». وقيل: الكفّار هنا الكافرون بالله عز وجل؛ لأنهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا من المؤمنين. وهذا قول حسن؛ فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم، ومنهم يظهر ذلك، وهو التعظيم للدنيا وما فيها. وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم، وتتقلل عندهم وتدِق إذا ذكروا الآخرة. وموضع الكاف رفع على الصفة. { ثُمَّ يَهِيجُ } أن يجفّ بعد خضرته { فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } أي متغيراً عما كان عليه من النضرة. { ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } أي فُتاتاً وتِبْناً فيذهب بعد حسنه، كذلك دنيا الكافر. { وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي للكافرين. والوقف عليه حسن، ويبتدىء { وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَانٌ } أي للمؤمنين. وقال الفراء: { وَفِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ } تقديره إما عذاب شديد وإما مغفرة، فلا يوقف على «شَدِيدٌ». { وَمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ } هذا تأكيد ما سبق؛ أي تغر الكفار، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة. وقيل: العمل للحياة الدنيا متاع الغرورِ تزهيداً في العمل للدنيا، وترغيباً في العمل للآخرة. قوله تعالى: { سَابِقُوۤاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل: سارعوا بالتوبة؛ لأنها تؤدي إلى المغفرة؛ قاله الكلبي. وقيل التكبيرة الأولى مع الإمام؛ قاله مكحول. وقيل: الصف الأول. { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } لو وصل بعضها ببعض. قال الحسن: يعني جميع السموات والأرضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها. وقيل: يريد لرجل واحد أي لكل واحد جنة بهذه السعة. وقال ٱبن كيسان: عنى به جنّة واحدة من الجنّات. والعرض أقل من الطول؛ ومن عادة العرب أنها تعبِّر عن سِعَةِ الشيء بعرضه دون طوله. قال:

كَأَنّ بِلاَدَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌعلى الْخَائِفِ المطْلوبِ كِفَّةُ حابِلِ

وقد مضى هذا كله في «آل عِمران». وقال طارق بن شهاب: قال قوم من أهل الحيرة لعمر رضي الله عنه: أرأيت قول الله عز وجل: { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم الليل إذا وَلَّى وجاء النهار أين يكون الليل؟ فقالوا: لقد نزعت بما في التوراة مثله. { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } شرط الإيمان لا غير، وفيه تقوية الرجاء. وقد قيل: شرط الإيمان هنا وزاد عليه في «آل عمران» فقال: { { أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَاظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِ } [آل عمران:133-134]. { ذَلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } أي إن الجنة لا تُنال ولا تُدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله. وقد مضى هذا في «الأعراف» وغيرها. { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }.