التفاسير

< >
عرض

مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَٰبٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
٢٢
لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
٢٣
ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٢٤
-الحديد

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ } قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار. وقيل: الجوائح في الزرع. { وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ } بالأوصاب والأسقام؛ قاله قتادة. وقيل: إقامة الحدود؛ قاله ٱبن حيان. وقيل: ضيق المعاش؛ وهذا معنى رواه ٱبن جريج. { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } يعني في اللوح المحفوظ. { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } الضمير في «نَبْرَأَهَا» عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ٱبن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الأرض والنفس. { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } أي خَلْق ذلك وحِفْظ جميعه { عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } هيّن. قال الربيع بن صالح: لما أخِذ سعيد ابن جبير رضي الله عنه بَكَيت؛ فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ } الآية. وقال ٱبن عباس: لما خلق الله القلم قال له ٱكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعةٌ من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكّلاً عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا؛ قال الله تعالى: { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِيۤ أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ }. وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هوّن عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتلٍ وجرح. وبيّن أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدّر لا مدفع له، وإنما على المرء ٱمتثال الأمر، ثم أدبهم فقال هذا: { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق؛ وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فُرِغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ٱبن مسعود أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبهثم قرأ { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ }" أي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } أي من الدنيا؛ قاله ٱبن عباس. وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب. وروى عِكرمة عن ٱبن عباس: ليس مِن أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً، وغنيمته شكراً. والحزن والفرح المنهيّ عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز؛ قال الله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي متكبر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة «آتَاكُمْ» بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا. وٱختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو «أَتَاكُمْ» بقصر الألف وٱختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل لـ«ـفَاتَكُمْ» ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق: يا بن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يردّه عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرزجمهر: أيها الحكيم! ما لك لا تحزن على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟ قال: لأن الفائت لا يتلافى بالْعَبْرَةِ، والآتي لا يستدام بالحَبْرَةِ. وقال الفضيل بن عِياض في هذا المعنى الدنيا مُبِيد ومُفِيد؛ فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شِرك خفيّ. والفخور بمنزلة المُصَرَّاةِ تُشَدّ أخلافهما ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أنّ ذلك معتاد وليس كذلك؛ فكذلك الذي يرى من نفسه حالاً وزينةً وهو مع ذلك مدّع فهو الفخور.

قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } أي لا يحب المختالين «ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ» فـ«ـالَّذِينَ» في موضع خفض نعتاً للمختال. وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غنيٌّ عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم؛ لِئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم؛ قاله السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير: { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } يعني بالعلم { وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } أي بألاّ يعلِّموا الناس شيئاً. زيد ابن أسلم: إنه البخل بأداء حقّ الله عز وجل. وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق؛ قاله عامر بن عبد الله الأشعريّ. وقال طوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرّق أصحاب الخواطِر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخيّ الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني: أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخيّ الذي يعطي بغير سؤال. { وَمَن يَتَوَلَّ } أي عن الإيمان { فَإِنَّ ٱللَّهَ } غنيّ عنه. ويجوز أن يكون لما حثّ على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غنيّ عنهم. وقراءة العامة { بِٱلْبُخْلِ } بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيـى بن يعمر ومجاهد وحميد وَٱبن محيصن وحمزة والكسائي «بِالْبَخَلِ» بفتحتين وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وٱبن السَّمَيْقع «بِالْبَخْل» بفتح الباء وإسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم «الْبُخُلِ» بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدّم الفرق بين البخل والشحّ في آخر «آل عمران».

وقرأ نافع وٱبن عامر { فَإِنَّ ٱللَّهَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ } بغير «هُوَ». والباقون «هُوَ الْغَنِيُّ» على أن يكون فصلاً. ويجوز أن يكون مبتدأ و«الْغَنِيُّ» خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلاً؛ لأن حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.