قوله تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ } أي بالمعجزات البيّنة والشرائع الظاهرة. وقيل: الإخلاص لله تعالى في العبادة، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ بذلك دعت الرسل: نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم. { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ } أي الكتب؛ أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم { وَٱلْمِيزَانَ } قال ٱبن زيد: هو ما يوزن به ويتعامل { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } أي بالعدل في معاملاتهم. وقوله: { بِٱلْقِسْطِ } يدل على أنه أراد الميزان المعروف. وقال قوم: أراد به العدل. قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب:
* عَلَفْتُهَـا تِبناً ومـاءً بـارداً
ويدل على هذا قوله تعالى: { { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } [الرحمٰن:7] ثم قال: { { وَأَقِيمُواْ ٱلْوَزْنَ بِٱلْقِسْطِ } [الرحمٰن:9] وقد مضى القول فيه. { وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح" . وروى عكرمة عن ٱبن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود وكان أشد بياضاً من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكَلْبَتَان والمِيقَعة وهي المِطرقة؛ ذكره الماوردي. وقال الثعلبي: قال ٱبن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدّادين: السَّنْدَان، والْكَلْبَتَان، والمِيقَعة، والمِطْرقة، والإبرة. وحكاه القشيريّ قال: والمِيقَعة ما يحدّد به؛ يقال وَقَعْتُ الحديدةَ أقعها أي حددتها. وفي الصحاح: والمِيقَعة الموضع الذي يألفه البازِي فيقع عليه، وخشبة القَصّار التي يَدقّ عليها، والمِطْرقة والمِسنّ الطويل. وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء. { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } أي لإهراق الدماء. ولذلك نهى عن الفصد والحِجامة في يوم الثلاثاء؛ لأنه يوم جرى فيه الدم. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في يوم الثلاثاء ساعةً لا يرقأ فيها الدم" . وقيل: { وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ } أي أنشأناه وخلقناه؛ كقوله تعالى: { { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء. وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه. { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعني السلاح والكُرَاع والجُنة. وقيل: أي فيه من خشية القتل خوف شديد. { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } قال مجاهد: يعني جُنَّة. وقيل: يعني ٱنتفاع الناس بالماعون من الحديد، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه. { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره. وقيل: هو عطف على قوله تعالى: { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب، وهذه الأشياء؛ ليتعامل الناس بالحق، { وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } وليرى الله من ينصر دينه { وَ } ينصر { رُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ } قال ٱبن عباس: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم «بِالْغَيْبِ» أي وهم لا يرونهم. { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } «قَوِيُّ» في أخذه «عَزِيزٌ» أي منيع غالب. وقد تقدّم. وقيل: { بِٱلْغَيْبِ } بالإخلاص. قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ } فصّل ما أجمل من إرسال الرّسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحاً وإبراهيم وجعل النبوّة في نسلهما { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ } أي جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء، وبعضهم أمماً يتلون الكتب المنزلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان. وقال ٱبن عباس: الكتاب الخط بالقلم { فَمِنْهُمْ } أي من ٱئتمّ بإبراهيم ونوح { مُّهْتَدٍ }. وقيل: { فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ } أي من ذريتهما مهتدون. { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } كافرون خارجون عن الطاعة.