التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
٢٧
-الحديد

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأولى قوله تعالى: { ثُمَّ قَفَّيْنَا } أي أتبعنا { عَلَىٰ آثَارِهِم } أي على آثار الذرية. وقيل: على آثار نوح وإبراهيم { بِرُسُلِنَا } موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم { وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ } وهو الكتاب المنزل عليه. وتقدّم ٱشتقاقه في أوّل سورة «آل عمران».

الثانية: قوله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ } على دينه يعني الحواريين وأتباعهم { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي مودّة فكان يواد بَعضهم بعضاً. وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرّفوا الكلِم عن مواضعه. والرأفة اللين، والرحمة الشفقة. وقيل: الرأفة تخفيف الْكَلِّ، والرحمة تحمُّل الثقل. وقيل: الرأفة أشد الرحمة. وتم الكلام. ثم قال: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } أي من قِبل أنفسهم. والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل؛ قال أبو علي: وٱبتدعوها رهبانية ٱبتدعوها. وقال الزجاج: أي ٱبتدعوها رهبانية؛ كما تقول رأيت زيداً وعمراً كلّمت. وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة؛ والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيّروا وٱبتدعوا فيها. قال الماوردي: وفيها قراءتان؛ إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرَّهب. الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرُّهبان كالرُّضْوانية من الرُّضْوان؛ وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع؛ وذلك أن ملوكهم غيّروا وبَدّلوا وبقي نفر قليل فترهّبوا وتبتّلوا. قال الضحاك: إن ملوكاً بعد عيسى عليه السلام ٱرتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فٱعتزلوا الناس وٱتخذوا الصوامع. وقال قتادة: الرهبانية التي ٱبتدعوها رفض النساء وٱتخاذ الصوامع. وفي خبر مرفوع: "هي لحوقهم بالبراري والجبال" . { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها؛ قاله ٱبن زيد. وقوله تعالى: { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله؛ قاله ٱبن مسلم. وقال الزجاج: { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } معناه لم نكتب عليهم شيئاً البَتّة. ويكون { ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } بدلاً من الهاء والألف في «كَتَبْنَاهَا» والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ٱبتغاء رضوان الله. وقيل: { إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ } الاستثناء منقطع، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ٱبتدعوها ٱبتغاء رضوان الله. { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي فما قاموا بها حق القيام. وهذا خصوص؛ لأن الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس وأكل أموالهم كما قال تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [التوبة:34] وهذا في قوم أدّاهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الأمر. وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ٱبن عباس في قوله تعالى: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة، فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا. فطائفة قالت: ٱبنوا لنا ٱسطوانة ٱرفعونا فيها، وأعطونا شيئاً نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فٱقتلونا. وطائفة قالت: ٱبنوا لنا دُوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا تروننا. وليس أحد من هؤلاء إِلا وله حميم منهم ففعلوا، فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غيّر الكتاب فقالوا: نسيح ونتعبّد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان مَن تقدّم من الذين ٱقتدوا بهم؛ فذلك قوله تعالى: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ } الآية. يقول: ٱبتدعها هؤلاء الصالحون { فَمَا رَعَوْهَا } المتأخرون { حَقَّ رِعَايَتِهَا } { فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } يعني الذين ٱبتدعوها أوّلاً وَرَعوها { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } يعني المتأخرين، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا قليل، جاؤوا من الكهوف والصَّوَامع والغِيران فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

الثالثة: وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ٱبتدع خيراً أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية. وعن أبي أمامة الباهلي ـ وٱسمه صُدَيّ بن عجلان ـ قال: أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، إنما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن ناساً من بني إسرائيل ٱبتدعوا بِدعاً لم يكتبها الله عليهم ٱبتغوا بها رضوان الله فما رَعَوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا }.

الرابعة: وفي الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغيّر الأصدقاء والإخوان. وقد مضى بيان هذا في سورة «الكهف» مستوفًى والحمد لله. وفي مسند أحمد بن حنبل من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال:

خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرِيَّة من سراياه فقال: مَرَّ رجلٌ بغار فيه شيء من ماء، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلّى عن الدنيا. قال: لو أني أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبيّ الله! إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لَغْدَوة أو رَوْحَةٌ في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدهم في الصف الأوّل خير من صلاته ستين سنة" . وروى الكوفيون "عن ٱبن مسعود، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تدري أيّ الناس أعلم قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا ٱختلف الناس فيه وإن كان مقصراً في العمل وإن كان يزحف على ٱسته هل تدري من أين ٱتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا إن أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبيّ الأميّ الذي وعدنا عيسى ـ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ـ فتفرقوا في غِيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ـ وتلا وَرَهْبَانِيَّةً الآية ـ أتدري ما رهبانية أمتي الهجرة والجهاد والصوم والصلاة والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا بن مسعود ٱختلف من كان قبلكم من اليهود على إحدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها وٱختلف مَن كان قبلكم من النصارى على ٱثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى ـ عليه السلام ـ حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ٱبن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهي التي قال الله تعالى فيهم: { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } ـ الآية ـ فمن آمن بي وٱتبعني وصدّقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون" يعني الذين تهوّدوا وتنصروا. وقيل: هؤلاء الذين أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون. وفي الآية تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي إن الأولين أصروا على الكفر أيضاً فلا تعجب من أهل عصرك إن أصروا على الكفر. والله أعلم.