التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٨
لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
-الحديد

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي آمنوا بموسى وعيسى { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ } بمحمد صلى الله عليه وسلم { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } أي مثلين من الأجر على إيمانكم بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وهذا مثل قوله تعالى: { { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتَونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } [القصص:54] وقد تقدم القول فيه. والكِفل الحظ والنصيب وقد مضى في «النساء» وهو في الأصل كِساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط؛ قاله ٱبن جريج. ونحوه قال الأزهري، قال: ٱشتقاقه من الكِساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه إذا ٱرتدفه لئلا يسقط؛ فتأويله يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي كما يحفظ الكِفل الراكب. وقال أبو موسى الأشعري: { كِفْلَيْنِ } ضعفين بلسان الحبشة. وعن ٱبن زيد: «كِفْلَيْن» أجر الدنيا والآخرة. وقيل: لما نزلت { أُوْلَـٰئِكَ يُؤْتَونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } ٱفتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. وقد ٱستدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الحسنة إنما لها من الأجر مِثْل واحد؛ فقال: الحسنة ٱسم عام ينطلق على كل نوع من الإيمان، وينطلق على عمومه، فإذا ٱنطلقت الحسنة على نوع واحد فليس له عليها من الثواب إلا مِثْل واحد. وإن ٱنطلقت على حسنة تشتمل على نوعين كان الثواب عليها مثلين؛ بدليل هذه الآية فإنه قال: { كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } والكفل النصيب كالمثل، فجعل لمن ٱتقى الله وآمن برسوله نصيبين؛ نصيباً لتقوى الله ونصيباً لإيمانه برسوله. فدل على أن الحسنة التي جعل لها عشر هي التي جمعت عشرة أنواع من الحسنات، وهو الإيمان الذي جمع الله تعالى في صفته عشرة أنواع، لقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ } [الأحزاب:35] الآية بكمالها. فكانت هذه الأنواع العشرة التي هي ثوابها أمثالها فيكون لكل نوع منها مِثْل. وهذا تأويل فاسد، لخروجه عن عموم الظاهر، في قوله تعالى: { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } بما لا يحتمله تخصيص العموم، لأن ما جمع عشر حسنات فليس يُجزَى عن كل حسنة إلا بمثلها. وبطل أن يكون جزاء الحسنة عشر أمثالها والأخبار دالة عليه. وقد تقدم ذكرها. ولو كان كما ذكر لما كان بين الحسنة والسيئة فرق. { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً } أي بياناً وهدًى، عن مجاهد. وقال ٱبن عباس: هو القرآن. وقيل: ضياء { تَمْشُونَ بِهِ } في الآخرة على الصراط، وفي القيامة إلى الجنة. وقيل تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها. وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد عليه السلام. وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله، لا الرياسة الحقيقية في الدين. { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ذنوبكم { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.

قوله تعالى: { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } أي ليعلم، و«أن لا» صلة زائدة مؤكدة؛ قاله الأخفش. وقال الفراء: معناه لأن يعلم و«لا» صلة زائدة في كل كلام دخل عليه جَحْد. قال قتادة: حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت: { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } أي لأن يعلم أهل الكتاب أنهم { أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ }. وقال مجاهد: قالت اليهود يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل. فلما خرج من العرب كفروا فنزلت: { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } أي ليعلم أهل الكتاب «أَنْ لاَ يَقْدِرُونَ» أي أنهم لا يقدرون؛ كقوله تعالى: { { أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } [طه:89]. وعن الحسن: «لَيْلاَ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ» وروي ذلك عن ٱبن مجاهد. وروى قُطْرُب بكسر اللام وإسكان الياء. وفتح لام الجر لغة معروفة. ووجه إسكان الياء أنّ همزة «أَنْ» حذفت فصارت «لَنْ» فأدغمت النون في اللام فصار «لِلاَّ» فلما ٱجتمعت اللامات أبدلت الوسطى منها ياء؛ كما قالوا في أَمّا: أَيْمَا. وكذلك القول في قراءة من قرأ «لِيْلاَ» بكسر اللام إلا أنه أبقى اللام على اللغة المشهورة فيها فهو أقوى من هذه الجهة. وعن ٱبن مسعود «لِكَيْلاَ يَعْلَمَ» وعن حِطّان بن عبد الله «لأَنْ يَعْلَمَ». وعن عِكرمة «لِيَعْلَمَ» وهو خلاف المرسوم. «مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» قيل: الإسلام. وقيل: الثواب. وقال الكلبي: من رزق الله. وقيل: نعم الله التي لا تحصى. { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } ليس بأيديهم فيصرفون النبوّة عن محمد صلى الله عليه وسلم إلى من يحبون. وقيل: { وَأَنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ } أي هو له { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ }. وفي البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، قال حدثنا شعيب عن الزهري، قال أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أعطى أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى ٱنتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أعطى أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً ثم أعطيتم القرآن فعملتم به حتى الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين قال أهل التوراة ربنا هؤلاءِ أقل عملاً وأكثر أجراً قال: هل ظلمتكم من أجركم من شيء قالوا لا فقال فذلك فضلي أوتيه من أشاء" في رواية: "فغضبت اليهود والنصارى وقالوا ربنا" الحديث { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ }. (تم تفسير سورة «الحديد» والحمد لله).