التفاسير

< >
عرض

قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
١
-المجادلة

الجامع لاحكام القرآن

فيه مسألتان:

الأولى قوله تعالى: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } التي ٱشتكت إلى الله هي خَوْلَة بنت ثعلبة. وقيل بنت حكيم. وقيل ٱسمها جميلة. وخَوْلَة أصح؛ وزوجها أَوْس بن الصَّامِت أخو عُبَادة بن الصامت، وقد مرّ بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فٱستوقفته طويلاً ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عُمَيْراً، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين؛ فٱتق الله يا عمر؛ فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب؛ وهو واقف يسمع كلامها؛ فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أوّل النهار إلى آخره لازلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خَوْلَة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟ وقالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسِع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خَوْلَة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وٱنقطع ولدي ظاهر مني؛ اللهم إني أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } خرجه ٱبن ماجه في السنن. والذي في البخاري من هذا عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادِلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا }. وقال الماوردي: هي خَوْلَة بنت ثعلبة. وقيل: بنت خويلد. وليس هذا بمختلف؛ لأن أحدهما أبوها والآخر جدّها فنسبت إلى كل واحد منهما. وزوجها أَوْس بن الصَّامِت أخو عُبَادة بن الصَّامت. وقال الثعلبي قال ٱبن عباس: "هي خَوْلة بنت خويلد الخزرجية، كانت تحت أَوس بن الصَّامت أخو عُبَادة بن الصامت، وكانت حسنة الجِسم؛ فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما ٱنصرفت أرادها فأبت فغضب عليها ـ قال عُرْوة: وكان ٱمرأً به لَمَم فأصابه بعض لَمَمِه فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي. وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لها: حرِمت عليه فقالت: والله ما ذكر طلاقاً؛ ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وٱبن عمي وقد نفضت له بطني؛ فقال: حرِمت عليه فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية. وروى الحسن: أنها قالت: يا رسول اللهٰ قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أوحي إليّ في هذا شيء فقالت: يا رسول الله، أوحي إليك في كل شيء وطُوِي عنك هذا؟! فقال: هو ما قلت لكِ فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله. فأنزل الله: { قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ } الآية" . وروى الدَّارَقطْنِيّ من حديث قتادة أن أنس بن مالك حدّثه قال: "إن أَوْس بن الصَّامت ظاهر من ٱمرأته خُوَيْلة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ظاهر حين كبِرت سنّي ورقّ عظمي. فأنزل الله تعالى آية الظهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوس: ٱعتق رقبة قال: مالي بذلك يدان. قال: فصم شهرين متتابعين قال: أما إني إذا أخطأني أن آكل في يوم ثلاث مرات يكِلّ بصري. قال: فأطعم ستين مسكيناً قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة. قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً حتى جمع الله له والله غفور رحيم." { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } قال: فكانوا يرون أن عنده مثلها وذلك لستين مسكيناً، وفي الترمذيّ وسنن ٱبن ماجه: "أن سلمة بن صخر البياضيّ ظاهر من ٱمرأته، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: ٱعتق رقبة قال: فضربت صفحة عنقي بيدي. فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: فصم شهرين فقلت: يا رسول اللهٰ وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام. قال: فأطعم ستين مسكيناً" الحديث. وذكر ٱبن العربي في أحكامه: "روي: أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: قد حرمت عليه فقالت: أشكو إلى الله حاجتي. ثم عادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه وعائشة تغسل شق رأسه الأيمن، ثم تحوّلت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي، فذهبت أن تعيد، فقالت عائشة: ٱسكتي فإنه قد نزل الوحي. فلما نزل القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها:ٱعتق رقبة قال: لا أجد. قال: صم شهرين متتابعين قال: إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري. قال: فأطعم ستين مسكيناً" . قال: فأعني. فأعانه بشيء. قال أبو جعفر النحاس: أهل التفسير على أنها خولة وزوجها أَوْس بن الصّامت، وٱختلفوا في نسبها، قال بعضهم: هي أنصارية وهي بنت ثعلبة، وقال بعضهم: هي بنت دليج، وقيل: هي بنت خُوَيلد، وقال بعضهم: هي بنت الصامت، وقال بعضهم: هي أمَة كانت لعبد الله بن أُبَيّ، وهي التي أنزل الله فيها { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } لأنه كان يُكرهها على الزنى. وقيل: هي بنت حكيم. قال النحاس: وهذا ليس بمتناقض، يجوز أن تنسب مرةً إلى أبيها، ومرةً إلى أمها، ومرةً إلى جدّها، ويجوز أن تكون أَمة كانت لعبد الله بن أبيّ فقيل لها أنصارية بالولاء؛ لأنه كان في عداد الأنصار وإن كان من المنافقين.

الثانية قرىء «قَد سَّمِعَ اللَّهُ» بالادغام و«قَدْ سَمِعَ اللَّهُ» بالإظهار. والأصل في السماع إدراك المسموعات، وهو ٱختيار الشيخ أبي الحسن. وقال ٱبن فُورك: الصحيح أنه إدراك المسموع. وقال الحاكم أبو عبد الله في معنى السميع: إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أُذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه؛ وإن كان غير موصوف بالحِس المركب في الأذن؛ كالأصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلاً لإدراك الصوت. والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة،فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفاً بهما. وشكى وٱشتكى بمعنى واحد. وقرِىء «تُحَاوِرُكَ» أي تراجعك الكلام و«تُجَادِلُكَ» أي تسائلك.