التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٢
-المجادلة

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث وعشرون مسألة:

الأولى: قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ } قرأ ٱبن عامر وحمزة والكسائي وخلف «يظَّاهُرونَ» بفتح الياء وتشديد الظاء وألف. وقرأ نافع وٱبن كثير وأبو عمرو ويعقوب «يَظَّهّرُونَ» بحذف الألف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء. وقرأ أبو العالية وعاصم وزِرّ بن حُبَيش «يُظاهِرُونَ» بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء. وقد تقدّم هذا في «الأحزاب». وفي قراءة أبَي «يَتَظَاهَرُونَ» وهي معنى قراءة ٱبن عامر وحمزة. وذِكر الظهر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنّي عنه بالظهر؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره، فكنّي بالظهر عن الركوب. ويقال: نزل عن ٱمرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب. ومعنى أنت عليّ كظهر أمّي: أي أنت عليّ محرّمة لا يحلّ لي ركوبك. الثانية: حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهرٍ محلل بظهرٍ محرّم؛ ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي أنه مظاهر. وأكثرهم على أنه إن قال لها: أنت عليّ كظهر ٱبنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما. وٱختلف فيه عن الشافعي رضي الله عنه؛ فروي عنه نحو قول مالك؛ لأنه شبّه ٱمرأته بظهر محرّم عليه مؤبَّد كالأم. وروى عنه أبو ثور: أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها. وهو مذهب قتادة والشعبي. والأوّل قول الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري.

الثالثة: أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي. وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وستراً. فإن قال: أنت عليّ كأمي ولم يذكر الظهر، أو قال: أنت عليّ مثل أمي؛ فإن أراد الظهار فله نيته، وإن أراد الطلاق كان مطلقاً الْبَتَّة عند مالك، وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهراً. ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق؛ كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار، وكناية الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق الْبَتّ.

الرابعة: ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية؛ فالصريح أنت عليّ كظهر أمي، وأنت عندي وأنتِ مني وأنتِ معي كظهر أمي. وكذلك أنت عليّ كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك عليّ كظهر أمي فهو مظاهر؛ مثل قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يكون ظهاراً. وهذا ضعيف منه؛ لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافاً لأبي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه. ومتى شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف. وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت والعمة والخالة كان مظاهراً عند أكثر الفقهاء، وعند الإمام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا. والكناية أن يقول: أنت عليّ كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية. فإن أراد الظهار كان ظهاراً، وإن لم يرد الظهار لم يكن مظاهراً عند الشافعي وأبي حنيفة. وقد تقدّم مذهب مالك رضي الله عنه في ذلك؛ والدليل عليه أنه أطلق تشبيه ٱمرأته بأمّه فكان ظهاراً. أصله إذا ذكر الظهر وهذا قوي فإن معنى اللفظ فيه موجود ـ واللفظ بمعناه ـ ولم يلزم حكم الظهر للفظه وإنما ألْزِمَه بمعناه وهو التحريم؛ قاله ٱبن العربي.

الخامسة: إذا شبه جملة أهله بعضو من أعضاء أمّه كان مظاهراً؛ خلافاً لأبي حنيفة في قوله: إنه إن شبهها بعضو يحلّ له النظر إليه لم يكن مظاهراً. وهذا لا يصح؛ لأن النظر إليه على طريق الاستمتاع لا يحل له، وفيه وقع التشبيه وإياه قصد المظاهر؛ وقد قال الإمام الشافعي في قول: إنه لا يكون ظهاراً إلا في الظهر وحده. وهذا فاسد؛ لأن كل عضو منها محرّم، فكان التشبيه به ظهاراً كالظهر؛ ولأن المظاهر إنما يقصد تشبيه المحلل بالمحرم فلزم على المعنى.

السادسة: إن شبه ٱمرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهاراً حملاً على الأوّل، وإن لم يذكر الظهر فاختلف فيه علماؤنا؛ فمنهم من قال: يكون ظهاراً. ومنهم من قال: يكون طلاقاً. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يكون شيئاً. قال ٱبن العربي: وهذا فاسد؛ لأنه شبه محللا من المرأة بمحرم فكان مقيَّداً بحكمه كالظهر، والأسماء بمعانيها عندنا، وعندهم بألفاظها وهذا نقض للأصل منهم.

قلت: الخلاف في الظهار بالأجنبية قوي عند مالك. وأصحابه منهم من لا يرى الظهار إلا بذوات المحارم خاصم ولا يرى الظهار بغيرهن. ومنهم من لا يجعله شيئاً. ومنهم من يجعله في الأجنبية طلاقاً. وهو عند مالك إذا قال: كظهر ٱبني أو غلامي أو كظهر زيد أو كظهر أجنبية ظهار لا يحل له وطؤها في حين يمينه. وقد روى عنه أيضاً: أن الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشيء؛ كما قال الكوفي والشافعي. وقال الأوزاعي: لو قال لها أنت عليّ كظهر فلان رجل فهو يمين يكفرها. والله أعلم.

السابعة: إذا قال: أنت عليّ حرام كظهر أمي كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً؛ لأن قوله: أنت حرام عليّ يحتمل التحريم بالطلاق فهي مطلقة، ويحتمل التحريم بالظهار فلما صرح به كان تفسيراً لأحد الاحتمالين يقضي به فيه.

الثامنة: الظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه. وكذلك عند مالك من يجوز له وطؤها من إمائه، إذا ظاهر منهن لزمه الظهار فيهن. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلزم. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهي مسألة عسيرة جدًّا علينا؛ لأن مالكاً يقول: إذا قال لأمته أنت عليّ حرام لا يلزم. فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته. ولكن تدخل الأمَة في عموم قوله: { مِّن نِّسَآئِهِمْ } لأنه أراد من محللاتهم. والمعنى فيه أنه لفظ يتعلق بالبُضع دون رفع العقد فصح في الأمة؛ أصله الحلف بالله تعالى.

التاسعة: ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك. ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة؛ لقوله تعالى: { مِّن نِّسَآئِهِمْ } وهذه ليست من نسائه. وقد مضى أصل هذه المسألة في سورة «براءة» عند قوله تعالى: { { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } [التوبة:75] الآية.

العاشرة: الذمي لا يلزم ظهاره. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: يصح ظهار الذمي؛ ودليلنا قوله تعالى: { مِنكُمْ } يعني من المسلمين. وهذا يقتضي خروج الذميّ من الخطاب. فإن قيل: هذا ٱستدلال بدليل الخطاب. قلنا: هو ٱستدلال بٱلاشتقاق والمعنى، فإن أنكحة الكفار فاسدة مستحقة الفسخ فلا يتعلق بها حكم طلاقٍ ولا ظِهار، وذلك كقوله تعالى: { { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } [الطلاق:2] وإذا خلت الأنكحة عن شروط الصحة فهي فاسدة، ولا ظهار في النكاح الفاسد بحال.

الحادية عشرة: قوله تعالى: { مِنكُمْ } يقتضي صحة ظهار العبد خلافاً لمن منعه. وحكاه الثعلبي عن مالك، لأنه من جملة المسلمين وأحكام النكاح في حقه ثابتة وإن تعذر عليه العتق والإطعام فإنه قادر على الصيام.

الثانية عشرة: وقال مالك رضي الله عنه: ليس على النساء تظاهر، وإنما قال الله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ } ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن، إنما الظهار على الرجال. قال ٱبن العربي: هكذا روي عن ٱبن القاسم وسالم ويحيـى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد. وهو صحيح معنًى؛ لأن الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال ليس بيد المرأة منه شيء وهذا إجماع. قال أبو عمر: ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن زياد: هي مظاهرة. وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد: ليس ظهار المرأة من الرجل بشيء قبل النكاح كان أو بعده. وقال الشافعي: لا ظهار للمرأة من الرجل. وقال الأوزاعي: إذا قالت المرأة لزوجها: أنت عليّ كظهر أمّي فلانة فهي يمين تكفِّرُهَا. وكذلك قال إسحاق: قال: لا تكون ٱمرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها. وقال الزهري: أرى أن تكفر كفارة الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها؛ رواه عنه معمر. وابن جريج عن عطاء قال: حرمت ما أحل الله، عليها كفارة يمين. وهو قول أبي يوسف. وقال محمد بن الحسن: لا شيء عليها.

الثالثة عشرة: من به لَمَمٌ وٱنتظمت له في بعض الأوقات الكلم إذا ظاهر لزم ظهاره؛ لما روي في الحديث: أن خَوْلة بنت ثعلبة وكان زوجها أَوْس بن الصّامت وكان به لَمَم فأصابه بعض لَمَمِه فظاهر من ٱمرأته.

الرابعة عشرة: من غضب وظاهر من امرأته أو طلق لم يسقط عنه غضبه حكمه. وفي بعض طرق هذا الحديث، قال يوسف بن عبد الله بن سلام: حدّثتني خَوْلَة ٱمرأة أَوْس بن الصّامت، قالت: كان بيني وبينه شيء، فقال: أنت عليّ كظهر أمي ثم خرج إلى نادي قومه. فقولها: كان بيني وبينه شيء؛ دليل على منازعة أحرجته فظاهر منها. والغضب لغو لا يرفع حكماً ولا يغيِّر شرعاً وكذلك السكران. وهي:

الخامسة عشرة: يلزمه حكم الظهار والطلاق في حال سكره إذا عقَل قولَه ونظَم كلامَه؛ لقوله تعالى: { { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [النساء:43] على ما تقدم في «النساء» بيانه. والله أعلم.

السادسة عشرة: ولا يقرب المظاهر ٱمرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ منها بشيء حتى يكفّر، خلافاً للشافعي في أحد قوليه؛ لأن قوله: أنت عليّ كظهر أمي يقتضي تحريم كل ٱستمتاع بلفظه ومعناه، فإن وطئها قبل أن يكفّر، وهي:

السابعة عشرة: ٱستغفر الله تعالى وأمسك عنها حتى يكفّر كفارة واحدة. وقال مجاهد وغيره: عليه كفارتان. روى سعيد عن قتادة، ومطرّف عن رجاء بن حَيْوة عن قَبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص في المظاهر: إذا وطىء قبل أن يكفّر عليه كفارتان. ومعمر عن قتادة قال: قال قبيصة بن ذؤيب: عليه كفارتان. وروى جماعة من الأئمة منهم ٱبن ماجه والنسائي عن ٱبن عباس: " أن رجلاً ظاهر من ٱمرأته فغشيها قبل أن يكفّر فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: ما حملك على ذلك فقال: يا رسول الله! رأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فلم أملك نفسي أن وقعت عليها. فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمره ألاّ يقربها حتى يكفّر" . وروى ٱبن ماجه والدَّارَقُطْني عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر أنه ظاهر في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم وقع بٱمرأته قبل أن يكفّر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأمره أن يكفّر تكفيراً واحداً.

الثامنة عشرة: إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة؛ كقوله: أنتن عليّ كظهر أمّي كان مظاهراً من كل واحدة منهن، ولم يجز له وطء إحداهن وأجزأته كفارة واحدة. وقال الشافعي: تلزمه أربع كفارات. وليس في الآية دليل على شيء من ذلك؛ لأن لفظ الجمع إنما وقع في عامة المؤمنين والمعوّل على المعنى. وقد روى الدَّارَقُطْنيّ عن ٱبن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إذا كان تحت الرجل أربع نسوة فظاهر منهن يجزيه كفارة واحدة، فإن ظاهر من واحدة بعد أخرى لزمه في كل واحدة منهن كفارة. وهذا إجماع.

التاسعة عشرة: فإن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن عليّ كظهر أمي فتزوّج إحداهن لم يقربها حتى يكفّر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن. وقد قيل: لا يطأ البواقي منهن حتى يكفر. والأوّل هو المذهب.

الموفية عشرين: وإن قال لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي وأنت طالق البَتّة؛ لزمه الطلاق والظهار معاً، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفّر، فإن قال لها: أنت طالق البتة وأنت عليّ كظهر أمي لزمه الطلاق ولم يلزمه الظهار؛ لأن المبتوتة لا يلحقها طلاق.

الحادية والعشرون: قال بعض العلماء: لا يصح ظهار غير المدخول بها. وقال المزني: لا يصح الظهار من المطلقة الرجعية، وهذا ليس بشيء؛ لأن أحكام الزوجية في الموضعين ثابتة، وكما يلحقها الطلاق كذلك يلحقها الظهار قياساً ونظراً. والله أعلم.

الثانية والعشرون: قوله تعالى: { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } أي ما نساؤهم بأمهاتهم. وقراءة العامة { أُمَّهَاتِهِمْ } بخفض التاء على لغة أهل الحجاز؛ كقوله تعالى: { { مَا هَـٰذَا بَشَراً } [يوسف:31]. وقرأ أبو معمر والسلمي وغيرهما «أُمَّهَاتُهُمْ» بالرفع على لغة تميم. قال الفراء: أهل نجد وبنو تميم يقولون «مَا هَذَا بَشَرٌ»، و«مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ» بالرفع. { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ } أي ما أمهاتهم إلا الوالدات. وفي المثل: ولدِك مَنْ دَمَّى عَقِبَيْكِ. وقد تقدم القول في اللائي في «الأحزاب».

الثالثة والعشرون: قوله تعالى: { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً } أي فظيعاً من القول لا يعرف في الشرع. والزور الكذب { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } إذ جعل الكفارة عليهم مخلّصة لهم من هذا القول المنكر.