التفاسير

< >
عرض

كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
١٧
-الحشر

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ } هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نُصْرتهم. وحَذَف حرف العطف، ولم يقل: كمثل الشيطان؛ لأن حذف حرف العطف كثير؛ كما تقول: أنت عاقل، أنت كريم، أنت عالم. وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر، راهبٌ تُركت عنده امرأة أصابها لَمَمٌ ليَدْعُوَ لها، فزيّن له الشيطان فوطئها فحملت، ثم قتلها خوفاً أن يفتضح، فدل الشيطان قومها على موضعها، فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم، فسجد له فتبرأ منه فأسلمه. ذكره القاضي إسماعيل وعليّ بن المدِيني عن سفيان بن عُيَيْنة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عُبيد بن رفاعة الزُّرَقِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وذكر خبره مطولاً ابنُ عباس ووهب بن مُنَبّه. ولفظهما مختلف. قال ابن عباس في قوله تعالى: { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ }: كان راهب في الفَتْرة يقال له: برصيصا؛ قد تعبّد في صَومعته سبعين سنة، لم يعص الله فيها طَرْفة عين، حتى أعيا إبليس؛ فجمع إبليس مردة الشياطين فقال: ألا أجد منكم من يكفيني أمر برصيصا؟ فقال الأبيض، وهو صاحب الأنبياء، وهو الذي قصد النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي، فجاء جبريل فدخل بينهما، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى الهند؛ فذلك قوله تعالى: { { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ } [التكوير:20] فقال: أنا أكْفِيكَه؛ فانطلق فتزيّا بزِيّ الرهبان، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه؛ وكان لا ينفتل من صلاته إلا في كل عشرة أيام يوماً، ولا يُفطر إلا في كل عشرة أيام؛ وكان يواصل العشرة الأيام والعشرين والأكثر؛ فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صَوْمعته؛ فلما انفتل برصيصا من صلاته، رأى الأبيض قائماً يصلّي في هيئة الرهبان؛ فندم حين لم يجبه، فقال: ما حاجتك؟ فقال: أن أكون معك، فأتأدّب بأدبك، وأقتبس من عملك، ونجتمع على العبادة؛ فقال: إني في شغل عنك؛ ثم أقبل على صلاته؛ وأقبل الأبيض أيضاً على الصلاة؛ فلما رأى برصيصا شدّة اجتهاده وعبادته قال له: ما حاجتك؟ فقال: أن تأذن لي فأرتفع إليك. فأذن له فأقام الأبيض معه حَوْلاً لا يفُطر إلا في كل أربعين يوماً يوماً واحداً، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوماً، وربما مدّ إلى الثمانين؛ فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه. ثم قال الأبيض: عندي دعوات يَشْفِي الله بها السقيم والمبتلى والمجنون؛ فعلّمه إياها. ثم جاء إلى إبليس فقال: قد والله أهلكت الرجل. ثم تعرّض لرجل فخنقه، ثم قال لأهله ـ وقد تصوّر في صورة الآدميين ـ: إن بصاحبكم جنوناً أفأطِبّه؟ قالوا نعم. فقال: لا أقوى على جِنِّيتْه، ولكن اذهبوا به إلى برصيصا، فإن عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب؛ فجاءوه فدعا بتلك الدعوات، فذهب عنه الشيطان. ثم جعل الأبيض يفعل بالناس ذلك ويرشدهم إلى برصيصا فيعافَوْن. فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة، وكان أبوهم ملكاً فمات واستخلف أخاه، وكان عمها ملكاً في بني إسرائيل فعذبها وخنقها. ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب ليعالجها فقال: إن شيطانها مارد لا يطاق، ولكن اذهبوا بها إلى برصيصا فدعوها عنده، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرئت؛ فقالوا: لا يجيبنا إلى هذا؛ قال: فابْنوا صومعةً في جانب صومعته ثم ضعوها فيها، وقولوا: هي أمانة عندك فاحتسب فيها. فسألوه ذلك فأبى، فبنَوْا صومعة ووضعوا فيها الجارية؛ فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فَأسْقِط في يده، فجاءها الشيطان فخنقها فانفتل من صلاته ودعا لها فذهب عنها الشيطان، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها. وكان يكشف عنها ويتعرض بها لبرصيصا، ثم جاءه الشيطان فقال: ويحك! واقِعْها، فما تجد مثلها ثم تتوب بعد ذلك. فلم يزل به حتى واقعها فحملت وظهر حملها. فقال له الشيطان: ويحك! قد افتضحت. فهل لك أن تقتلها ثم تتوب فلا تفتضح، فإن جاءوك وسألوك فقل جاءها شيطانها فذهب بها. فقتلها برصيصا ودفنها ليلاً؛ فأخذ الشيطان طَرف ثوبها حتى بقي خارجاً من التراب؛ ورجع برصيصاً إلى صلاته. ثم جاء الشيطان إلى إخوتها في المنام فقال: إن برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا، وقتلها ودفنها في جبل كذا وكذا؛ فاستعظموا ذلك وقالوا لبرصيصا: ما فعلت أختنا؟ فقال: ذهب بها شيطانها؛ فصدقوه وانصرفوا. ثم جاءهم الشيطان في المنام وقال: إنها مدفونة في موضع كذا وكذا، وإن طرف ردائها خارج من التراب؛ فانطلقوا فوجدوها، فهدموا صومعته وأنزلوه وخنقوه، وحملوه إلى الملك فأقرّ على نفسه فأمر بقتله. فلما صُلب قال الشيطان: أتعرفني؟ قال لا والله! قال: أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات، أما اتقيت الله أما استحيت وأنت أعبد بني إسرائيل! ثم لم يكفِك صنيعك حتى فضحت نفسك، وأقررت عليها وفضحت أشباهك من الناس! فإن متّ على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك بعدك. فقال: كيف أصنع؟ قال: تطيعني في خصلة واحدة وأنجيك منهم وآخذ بأعينهم. قال: وما ذاك؟ قال تسجد لي سجدة واحدة؛ فقال: أنا أفعل؛ فسجد له من دون الله. فقال: يا برصيصا، هذا أردت منك؛ كان عاقبة أمرك أن كفرت بربك، إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين. وقال وهب بن مُنَبّه: إن عابداً كان في بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت، وكانت بكراً، ليست لهم أخت غيرها، فخرج البعث على ثلاثتهم؛ فلم يدروا عند من يخلّفون أختهم، ولا عند من يأمنون عليها، ولا عند من يضعونها. قال فاجتمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل، وكان ثقةً في أنفسهم، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يقفلوا من غَزاتهم، فأبى ذلك عليهم وتعوّذ بالله منهم ومن أختهم. قال فلم يزالوا به حتى أطمعهم فقال: أنزلوها في بيت حِذاء صَوْمعتي، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زماناً، ينزل إليها الطعام من صومعته، فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام. قال: فتلطّف له الشيطان فلم يزل يرغّبه في الخير، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهاراً، ويخوّفه أن يراها أحد فيعلقها. قال: فلبث بذلك زماناً، ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير والأجر، وقال له: لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك؛ قال: فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها، قال: فلبث بذلك زماناً ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وحَضّه عليه، وقال: لو كنت تكلّمها وتحدّثها فتأنس بحديثك، فإنها قد استوحشت وحشةً شديدة. قال: فلم يزل به حتى حدّثها زماناً يطلع عليها من فوق صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدّثها وتقعد على باب بيتها فتحدّثك كان آنس لها. فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدّثها، وتخرج الجارية من بيتها، فلبثا زماناً يتحدثان، ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير والثواب فيما يصنع بها، وقال: لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريباً من باب بيتها كان آنس لها. فلم يزل به حتى فعل. قال: فلبثا زماناً، ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وفيما له من حسن الثواب فيما يصنع بها، وقال له: لو دنوت من باب بيتها فحدّثتها ولم تخرج من بيتها، ففعل. فكان ينزل من صومعته فيقعد على باب بيتها فيحدثها. فلبثَا بذلك حيناً ثم جاءه إبليس فقال: لو دخلت البيت، معها تحدثها ولم تتركها تُبرز وجهها لأحد كان أحسن بك. فلم يزل به حتى دخل البيت، فجعل يحدثها نهاره كله، فإذا أمسى صعد في صومعته. قال: ثم أتاه إبليس بعد ذلك، فلم يزل يزيّنها له حتى ضرب العابد على فخذها وقَبّلها. فلم يزل به إبليس يحسّنها في عينه ويسوّل له حتى وقع عليها فأحبلها، فولدت له غلاماً. فجاءه إبليس فقال له: أرأيت أن جاء إخوة هذه الجارية وقد وَلدتْ منك! كيف تصنع! لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك! فاعمِد إلى ابنها فاذبحه وادفنه، فإنها ستكتم عليك مخافة إخواتها أن يطلعوا على ما صنعت بها، ففعل. فقال له: أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلتَ ابنها! خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها. فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحَفِيرة مع ابنها، وأطبق عليها صخرة عظيمة، وسوّى عليها التراب، وصعد في صومعته يتعبّد فيها؛ فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث؛ حتى قفل إخوتها من الغزو، فجاءوه فسألوه عنها فنعاها لهم وترحّم عليها، وبكى لهم وقال: كانت خيرَ أَمَة، وهذا قبرها فانظروا إليه. فأتى إخوتها القبر فبكَوْا على قبرها وترحّموا عليها، وأقاموا على قبرها أياماً ثم انصرفوا إلى أهاليهم. فلما جَنّ عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم؛ فأخبره بقول العابد وموتها وترحُّمه عليها، وكيف أراهم موضع قبرها؛ فكذّبه الشيطان وقال: لم يَصْدُقْكم أمر أختكم، إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاماً فذبحه وذبحها معه فزعاً منكم، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله. فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونهما هنالك جميعاً كما أخبرتكم. قال: وأتى الأوسط في منامه وقال له مثل ذلك. ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك. فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم. فأقبل بعضهم على بعض، يقول كل واحد منهم: لقد رأيت عجباً، فأخبر بعضهم بعضاً بما رأى. قال أكبرهم: هذا حُلم ليس بشيء، فامضوا بنا ودَعُوا هذا. قال أصغرهم: لا أمضي حتى آتي ذلك المكان فأنظر فيه. قال: فانطلقوا جميعاً حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم، فسألوا العابد فصدّق قول إبليس فيما صنع بهما. فاستعدَوا عليه ملكهم، فأنزِل من صومعته فقدّموه لِيُصْلَب، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحتَ ابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلّصتك مما أنت فيه. قال: فكفر العابد بالله؛ فلما كفر خلّى عنه الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه. قال: ففيه نزلت هذه الآية { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } ـ إلى قوله ـ { جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ }

قال ابن عباس: فضرب الله هذا مثلاً للمنافقين مع اليهود. وذلك أن الله تعالى أمر نبيّه عليه السلام أن يُجْلي بني النَّضِير من المدينة، فَدَسّ إليهم المنافقون ألا تخرجوا من دياركم، فإن قاتلوكم كنا معكم، وإن أخرجوكم كنا معكم، فحاربوا النبيّ صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون، وتبّرءوا منهم كما تبرأ الشيطان من بَرْصيصَا العابد. فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقِيّة والكتمان. وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح، حتى كان أمر جُريج الراهب، وبرّأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس. وقيل: المعنى مثَلُ المنافقين في غدرهم لبني النَّضِير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش: { { لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } [الأنفال:48] الآية. وقال مجاهد: المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم. ومعنى قوله تعالى: { إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ } أي أغواه حتى قال: إني كافر. وليس قول الشيطان: { إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: { إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ } وفتح الياء من «إني» نافع وابن كثير وأبو عمرو. وأسكن الباقون. { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ } أي عاقبة الشيطان وذلك الإنسان { أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا } نصب على الحال. والتثنية ظاهرة فيمن جعل الآية مخصوصة في الراهب والشيطان. ومن جعلها في الجنس فالمعنى: وكان عاقبة الفريقين أو الصنفين. ونصب «عَاقِبَتهُمَا» على أنه خبر كان. والإسم { أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ } وقرأ الحسن «فَكَانَ عَاقِبَتُهُما» بالرفع على الضد من ذلك. وقرأ الأعمش «خَالِدَانِ فِيهَا» بالرفع وذلك خلاف المرسوم. ورفعه على أنه خبر «أنّ» والظرف ملغى.