التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٩
-الحشر

الجامع لاحكام القرآن

فيه إحدى عشرة مسألة:

الأولى ـ قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ } لا خلاف أن الذين تبوَّءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا المدينة قبل المهاجرين إليها. «وَالإْيمَانَ» نصب بفعل غير تبوّأ؛ لأن التبوّء إنما يكون في الأماكن. و { مِن قَبْلِهِمْ } «مِنْ» صلة تبوّأ والمعنى: والذين تبوّءوا الدار من قبل المهاجرين واعتقدوا الإيمان وأخلصوه لإن الإيمان ليس بمكان يتبوّأ، كقوله تعالى: { { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [يونس:71] أي وادعوا شركاءهم؛ ذكره أبو عليّ والزمخشريّ وغيرهما. ويكون من باب قوله: عَلَفْتُهَا تِبناً وماءً بارداً. ويجوز حمله على حذف المضاف كأنه قال: تبوّءوا الدار ومواضع الإيمان. ويجوز حمله على ما دل عليه تبوّأ؛ كأنه قال: لزموا الدار ولزموا الإيمان فلم يفارقوهما. ويجوز أن يكون تبوّأ الإيمان على طريق المثل؛ كما تقول: تبوّأ من بني فلان الصميم. والتبوُّء: التمكن والاستقرار. وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إليهم.

الثانية ـ: واختلف أيضاً هل هذه الآية مقطوعة مما قبلها أو معطوفة؛ فتأوّل قوم أنها معطوفة على قوله: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } وأن الآيات التي في الحشر كلها معطوفة بعضها على بعض. ولو تأملوا ذلك وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه؛ لأن الله تعالى يقول: { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } إلى قوله ـ { ٱلْفَاسِقِينَ } فأخبر عن بني النضير وبني قَيْنُقاع. ثم قال: { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } فأخبر أن ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يُوجف عليه حين خَلّوه. وما تقدم فيهم من القتال وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر. ثم قال: { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } وهذا كلام غير معطوف على الأول. وكذا { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم؛ فإنهم سلّموا ذلك الفيء للمهاجرين؛ وكأنه قال: الفيء للفقراء المهاجرين، والانصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء. وكذا. { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ابتداء كلام؛ والخبر { يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا }. وقال إسماعيل ابن إسحاق: إن قوله { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ } { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا } معطوف على ما قبل، وأنهم شركاء في الفيء؛ أي هذا المال للمهاجرين والذين تبوّءوا الدار. وقال مالك بن أوس: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ } [التوبة:60] فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ { { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } } [الأنفال:41] فقال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ { وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ } ـ حتى بلغ ـ { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ }، { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بَسَرْوِ حمير نصيبه منها لم يَعْرَق فيها جبينه. وقيل: إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك، وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليّ. ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت. فلما غدَوْا عليه قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة «الحشر» وتلا { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } ـ إلى قوله ـ { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } فلما بلغ قوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ } قال: ما هي لهؤلاء فقط. وتلا قوله: { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ـ إلى قوله ـ { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }. ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك. والله أعلم.

الثالثة ـ: روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فُتحت قريةٌ إلا قسمتها كما قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خَيبر. وفي الروايات المستفيضة من الطرق الكثيرة: أن عمر أبقى سواد العراق ومصر وما ظهر عليه من الغنائم؛ لتكون من أعطيات المقاتلة وأرزاق الحِشْوة والذَّراري، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم؛ فكره ذلك منهم واختلف فيما فعل من ذلك؛ فقيل: إنه استطاب أنفس أهل الجيش؛ فمن رضي له بترك حَظه بغير ثمن ليُبقيه للمسلمين قلة. ومن أبى أعطاه ثمن حظه. فمن قال: إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قسم خَيبر، لأن اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها. وقيل: إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش. وقيل: إنه تأول في ذلك قول الله سبحانه وتعالى: { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } ـ إلى قوله ـ { رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } على ما تقدم. والله أعلم.

الرابعة ـ: واختلف العلماء في قسمة العقار؛ فقال مالك: للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين. وقال أبو حنيفة الإمام مخير بين أن يقسمها أو يجعلها وقفاً لمصالح المسلمين وقال الشافعيّ: ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال. فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعله وقْفاً عليهم فله. ومن لم تَطِب نفسُه فهو أحق بماله. وعمر رضي الله عنه استطاب نفوس الغانمين واشتراها منهم.

قلت: وعلى هذا يكون قوله: { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } مقطوعاً مما قبله، وأنهم نُدبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم.

الخامسة ـ: قال ابن وهب: سمعت مالكاً يذكر فضل المدينة على غيرها من الآفاق فقال: إن المدينة تُبُوِّئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القُرى افتتِحت بالسيف؛ ثم قرأ { وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } الآية. وقد مضى الكلام في هذا، وفي فضل الصلاة في المسجدين: المسجد الحرام ومسجد المدينة؛ فلا معنى للإعادة.

السادسة ـ: قوله تعالى: { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصوا به من مال الفيء وغيره؛ كذلك قال الناس. وفيه تقدير حذف مضافين؛ المعنى مَسَّ حاجةٍ من فَقد ما أوتوا. وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة. وكان المهاجرون في دور الأنصار: فلما غَنم عليه الصلاة والسلام أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم، وإشراكهم في أموالهم. ثم قال: "إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم. فقال سعد بن عُبادة وسعد بن معاذ: بل نقسمه بين المهاجرين، ويكونون في دورنا كما كانوا. ونادت الأنصار: رضينا وسلمنا يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار" . وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين ولم يعط الأنصار شيئاً إلا الثلاثة الذين ذكرناهم. ويحتمل أن يريد به { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } إذا كان قليلاً (بل) يقنعون به ويرضون عنه. وقد كانوا على هذه الحالة حين حياة النبي صلى الله عليه وسلم دُنْيَا، ثم كانوا عليه بعد موته صلى الله عليه وسلم بحكم الدنيا. وقد أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "سترون بعدي أَثَرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" .

السابعة ـ: قوله تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } في الترمذي عن أبي هريرة: أن رجلاً بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: نَوِّمي الصِّبية وأطفئي السراج وقَرّبي للضيف ما عندك؛ فنزلت هذه الآية { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } قال: هذا حديث حسن صحيح. خرجه مسلم أيضاً. "وخرّج عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود. فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. ثم أرسل إلى الأخرى فقالت مثل ذلك؛ حتى قلن كلُّهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء. فقال: من يُضيف هذا الليلةرحمه الله .؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني. قال: فعلّلِيهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل؛ فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال: فقعدوا وأكل الضيف. فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجِبَ الله ـ عز وجل ـ من صنيعكما بضيفكما الليلة" . وفي رواية عن أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضيفه فلم يكن عنده ما يضيفه. فقال: ألا رجل يضيف هذارحمه الله ؟ فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة. فانطلق به إلى رحله" ...؛ وساق الحديث بنحو الذي قبله، وذكر فيه نزول الآية. وذكر المهدويّ عن أبي هريرة أن هذا نزل في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار ـ نزل به ثابت ـ يقال له أبو المتوكل، فلم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: أطفئي السراج ونوّمي الصبية؛ وقَدّم ما كان عنده إلى ضيفه. وكذا ذكر النحاس قال: قال أبو هريرة: نزل برجل من الأنصار ـ يقال له أبو المتوكل ـ ثابت بن قيس ضيفاً، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه؛ فقال لامرأته: أطفئي السراج ونوّمي الصبية؛ فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ـ إلى قوله ـ { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ }. وقيل: إن فاعل ذلك أبو طلحة. وذكر القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم: وقال ابن عمر: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال إن أخي فلاناً وعياله أحوج إلى هذا منّا؛ فبعثه إليهم، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها سبعة أبيات، حتى رجعت إلى أولئك؛ فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ }. ذكره الثعلبيّ عن أنس قال: أهْدِىَ لرجل من الصحابة رأس شاة وكان مجهوداً فوجّه به إلى جار له، فتداولته سبعة أنفس في سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول؛ فنزلت: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } الآية. وقال ابن عباس: "قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم بني النضير: إن شئتم قسمت للمهاجرين من دياركم وأموالكم وشاركتموهم في هذه الغنيمة وان شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئاً فقالت الأنصار: بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة؛ فنزلت { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ }" الآية. والأول أصح. وفي الصحيحين عن أنس: أن الرجل كان يجعل للنبيّ صلى الله عليه وسلم النخلات من أرضه حتى فُتحت عليه قريظة والنضير، فجعل بعد ذلك يرد عليه ما كان أعطاه. لفظ مسلم. وقال الزهري عن أنس بن مالك: لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء، وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفونهم العمل والمؤونة؛ وكانت أمّ أنس بن مالك تُدعى أم سُلَيم، وكانت أم عبد الله بن أبي طلحة، كان أخا لأنس لأمه؛ وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عِذاقاً لها؛ فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مولاته، أم اسامة بن زيد. قال ابن شهاب: فأخبرني أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة، رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم. قال: فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمي عِذاقها، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن مكانهن من حائطه. خرجّه مسلم أيضاً.

الثامنة ـ الإيثار: هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنياوية، ورغبة في الحظوظ الدينية. وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة. يقال: آثرته بكذا؛ أي خصصته به وفضّلته. ومفعول الإيثار محذوف؛ أي يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها؛ حسب ما تقدم بيانه. وفي موطأ مالك: «أنه بلغه عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن مسكيناً سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف؛ فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه؛ فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إياه. قالت: ففعلت. قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يُهدى لنا: شاةً وكفنها. فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك. قال علماؤنا: هذا من المال الرابح، والفعل الزاكي عند الله تعالى يعجّل منه ما يشاء، ولا ينقص ذلك مما يدخر عنه. ومن ترك شيئاً لله لم يجد فَقْدَه. وعائشة رضي الله عنها في فعلها هذا من الذين أثنى الله عليهم بأنهم يؤثرون على أنفسهم مع ما هم فيه من الخصاصة، وأن من فعل ذلك فقد وقى شُحّ نفسه وأفلح فلاحاً لا خسارة بعده. ومعنى (شاة وكَفَنَها) فإن العرب ـ أو بعض العرب أو بعض وجوههم ـ كان هذا من طعامهم، يأتون إلى الشاة أو الخروف إذا سلخوه غَطّوه كله بعجين البُرِّ وكفنوه به ثم علقوه في التنور، فلا يخرج من ودكه شيء إلا في ذلك الكفن؛ وذلك من طيب الطعام عندهم. وروى النسائي عن نافع أن ابن عمر اشتكى واشتهى عنباً، فاشترى له عنقود بدرهم، فجاء مسكين فسأل؛ فقال: أعطوه إياه؛ فخالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إلى ابن عمر، فجاء المسكين فسأل؛ فقال: أعطوه إياه؛ ثم خالف إنسان فاشتراه بدرهم، ثم جاء به إليه؛ فأراد السائل أن يرجع فمنع. ولو علم ابن عمر أنه ذلك العنقود ما ذاقه؛ لأن ما خرج لله لا يعود فيه. وذكر ابن المبارك قال: أخبرنا محمد بن مطرّف قال: حدثنا أبو حازم عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع عن مالك الدار: أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار، فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عُبيدة بن الجرّاح، ثم تَلَكَّأ ساعة في البيت حتى تنظر ماذا يصنع بها. فذهب بها الغلام إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك؛ فقال: وَصَلَه الله ورَحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان؛ حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر، فأخبره فوجده قد أعدّ مثلها لمعاذ بن جبل؛ وقال: اذهب بهذا إلى معاذ بن جبل؛ وتَلَكأ في البيت ساعة حتى تنظر ماذا يصنع، فذهب بها إليه فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال:رحمه الله ووَصَله، وقال: يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا وبيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن! والله مساكين فأعطنا. ولم يبق في الخرقة إلا ديناران قد جاء بهما إليها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسُرّ بذلك عمر وقال: إنهم إخوة! بعضهم من بعض. ونحوه عن عائشة رضي الله عنها في إعطاء معاوية إياها، وكان عشرة آلاف وكان المُنْكَدِر دخل عليها. فإن قيل: وردت أخبار صحيحة في النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء، قيل له: إنما كره ذلك في حق من لا يوثق منه الصبر على الفقر، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه. فأما الأنصار الذين أثنى الله عليهم بالإيثار على أنفسهم، فلم يكونوا بهذه الصفة، بل كانوا كما قال الله تعالى: { { وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ } [البقرة:177]. وكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك. والإمساك لمن لا يصبر.

ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. وروي أنّ رجلاً "جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال: هذه صدقة، فرماه بها وقال: يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدّق به ثم يقعد يتكفف الناس" . والله أعلم.

التاسعة: ـ والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال السائرة:

والجُـودُ بالنَّفْس أقصَى غايـة الجُـودِ

ومن عبارات الصوفية الرشيقة في حدّ المحبة: أنها الإيثار، ألا ترى أن امرأة العزيز لمّا تناهت في حُبّها ليوسف عليه السلام، آثرته على نفسها فقالت: أنا راودته عن نفسه. وأفضل الجود بالنفس الجودُ على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح: أن أبا طَلْحة ترَسّ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتطلّع ليرى القوم. فيقول له أبو طلحة: لا تُشرِف يا رسول الله! لا يصيبونك! نَحْرِي دون نحرك! ووَقى بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم فشُلّت. وقال حُذيفة العدوِيّ: انطلقت يوم اليَرْمُوك أطلب ابن عم لي ـ ومعي شيء من الماء ـ وأنا أقول: إن كان به رَمقٌ سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك، فأشار برأسه أنْ نَعم، فإذا أنا برجل يقول: آه! آه! فأشار إليَّ ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم. فسمع آخر يقول: آه! آه! فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو مات. وقال أبو يزيد البِسْطَامِيّ: ما غَلَبني أحدٌ ما غلبني شابٌّ من أهل بَلْخ! قدِم علينا حاجاً فقال لي: يا أبا يزيد، ما حَدُّ الزهد عندكم؟ فقلت: إنْ وَجَدْنا أكلنا. وإن فقدنا صبرنا. فقال: هكذا كلاب بَلْخ عندنا. فقلت: وما حَدّ الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا، وإن وجدنا آثرنا. وسُئل ذو النُّون المصري: ما حَدُّ الزاهد المنشرح صدره؟ قال ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيّف وثلاثون رجلاً بقرية من قُرَى الرَّيّ، ومعهم أرغفة معدودة لا تُشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام؛ فلما رُفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل منه أحد شيئاً؛ إيثاراً لصاحبه على نفسه.

العاشرة ـ: قوله تعالى: { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الخصاصة: الحاجة التي تختلّ بها الحال. وأصلها من الاختصاص وهو انفراد بالأمر. فالخصاصة الإنفراد بالحاجة؛ أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر:

أمّا الربيع إذا تكون خصاصةٌعاش السقيم به وأَثْرَى الْمُقْترُ

الحادية عشرة ـ قوله تعالى: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } الشُّحّ والبُخْلُ سواء؛ يقال: رجل شحيح بَيّن الشُّحّ والشَّح والشّحاحة. قال عمرو بن كلثوم:

ترى اللَّحِزَ الشّحيحَ إذا أُمِرّتْعليه لِمالِه فيها مُهِينا

وجعل بعض أهل اللغة الشُّحّ أشدّ من البخل. وفي الصحاح: الشّحُّ البخلُ مع حِرص؛ تقول: شَحِحت (بالكسر) تَشَحّ. وشَحَحْتَ أيضاً تَشُحّ وتَشِحّ. ورجل شحيح، وقومٌ شِحاح وأشِحّة. والمراد بالآية: الشّحُّ بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة، وما شاكل ذلك. فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه. ومن وَسّع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يُوقَ شُحَّ نفسه. وروى الأسْودُ عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعت الله عز وجل يقول: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أُخرج من يدي شيئاً. فقال ابن مسعود: ليس ذلك بالشُّح الذي ذكره الله تعالى في القرآن، إنما الشّح الذي ذكره الله تعالى في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً، ولكنّ ذلك البخل، وبئس الشَّيء البخل. ففرّق رضي الله عنه بين الشح والبخل. وقال طاوس: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشّح أن يَشِح بما في أيدي الناس، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحِلّ والحرام، لا يقنع. ابن جبير: الشح منع الزكاة وادّخار الحرام. ابن عُيَيْنَة: الشح الظلم. الليث: ترك الفرائض وانتهاك المحارم. ابن عباس: من اتبع هواه ولم يقبل بالإيمان فذلك الشحيح. ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً (لشيء) نهاه الله عنه، ولم يَدْعُه الشح (على أن يمنع شيئاً من شيء) أمره الله به، فقد وقاه الله شح نفسه. وقال أنس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بَرِىء من الشّح من أدّى الزكاة وقَرَى الضيف وأعطى في النائبة" . وعنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو "اللهم إني أعوذ بك من شُحّ نفسي وإسرافها ووساوسها" . وقال أبو الهَيّاج الأسدي: رأيت رجلا في الطّواف يدعو: اللهم قِني شُحَّ نفسي. لا يزيد على ذلك شيئاً، فقلت له؟ فقال: إذا وقيت شُحّ نفسي لم أسرق ولم أزْنِ ولم أفعل. فإذا الرجل عبد الرحمن بن عَوْف.

قلت: يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشّح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سَفَكوا دماءهم واستحلُّوا محارمهم" . وقد بيناه في آخر «آل عمران». وقال كِسرى لأصحابه: أي شيء أضرّ بابن آدم؟ قالوا: الفقر. فقال كِسرى: الشح أضرّ من الفقر؛ لأن الفقير إذا وجد شبع، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبداً.