التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّٰتٍ مَّعْرُوشَٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍ وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ
١٤١
-الأنعام

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث وعشرون مسألة:

الأولى: قوله تعالى: { أَنشَأَ } أي خلق. { جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ } أي بساتين ممسوكات مرفوعات. { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } غير مرفوعات. قال ٱبن عباس: «مَعْرُوشَاتٍ» ما ٱنبسط على الأرض مما يفْرِشُ مثل الكروم والزروع والبَطّيخ. «وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ» ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار. وقيل: المعروشات ما ٱرتفعت أشجارها. وأصل التعريش الرفع. وعن ٱبن عباس أيضاً: المعروشات ما أثبته ورفعه الناس. وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار. يدل عليه قراءة عليّ رضي الله عنه «مَغْرُوسَاتٍ وَغَيْرَ مَغْرُوسَاتٍ» بالغين المعجمة والسين المهملة.

الثانية: قوله تعالى: { وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ } أفردهما بالذكر وهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة؛ على ما تقدم بيانه في «البقرة» عند قوله: { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ } [البقرة: 98] الآية. { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } يعني طعمه منه الجيّد والدُّون. وسمّاه أكلاً لأنه يؤكل. و«أُكُلُهُ» مرفوع بالابتداء. و«مُخْتَلِفاً» نعته؛ ولكنه لما تقدم عليه ووَلِي منصوباً نُصب. كما تقول: عندي طباخاً غلام. قال:

الشَّرُّ مُنْتَشِرٌ يَلقاك عن عُرُضوالصالحاتُ عليها مُغلقاً بابُ

وقيل: «مُخْتَلِفاً» نصب على الحال. قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه مسألة مُشْكِلة من النحو؛ لأنه يقال: قد أنشأها ولم يختلف أكلها وهو ثمرها؛ فالجواب أن الله سبحانه أنشأها بقوله: «خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» فأعلم أنه أنشأها مختلفاً أكلها؛ أي أنه أنشأها مقدّراً فيه الاختلاف؛ وقد بيّن هذا سيبويه بقوله: مررت برجل معه صَقْرٌ صائداً به غداً، على الحال؛ كما تقول: لتدخلُنّ الدار آكلين شاربين؛ أي مقدّرين ذلك. جواب ثالث: ـ أي لما أنشأه كان مختلفاً أكله، على معنى أنه لو كان له أكُلٌ لكان مختلفاً أكله. ولم يقل أكلهما؛ لأنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما؛ كقوله: { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } [الجمعة: 11] أي إليهما. وقد تقدّم هذا المعنى.

الثالثة: قوله تعالى: { وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ } عطف عليه { مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } نصب على الحال، وقد تقدم القول فيه. وفي هذه أدلة ثلاثة؛ أحدها: ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بدّ لها من مغيِّر. الثاني: على المِنَّة منه سبحانه علينا؛ فلو شاء إذ خلقنا ألاّ يخلق لنا غذاء، وإذا خلقه ألاّ يكون جميل المَنْظر طيّب الطعم، وإذْ خلقه كذلك ألاّ يكون سهل الجَنْيِ؛ فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء؛ لأنه لا يجب عليه شيء. الثالث: على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرّسوب يصعَد بقدرة الله الواحِد عَلاّمِ الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا ٱنتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراقٌ ليست من جنسها، وثمرٌ خارج من صفته الجِرْم الوافر، واللون الزاهر، والجَنَى الجديد، والطعم اللذيذ؛ فأين الطبائع وأجناسها، وأين الفلاسفة وأُناسُها، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان، أو ترتّب هذا الترتيب العجيب! كلا! لا يتم ذلك في العقول إلا لِحَيّ عالمٍ قديرٍ مُريدٍ. فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية!

ووجه ٱتّصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتَرَوْا على الله الكذب وأشركوا معه وحَلّلوا وحرّموا دَلّهُم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقاً لهم.

الرابعة: قوله تعالى: { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } فهذان بناءان جاءا بصيغة ٱفْعَلْ؛ أحدهما مباح كقوله: { { فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [الجمعة: 10] والثاني واجب. وليس يمتنع في الشريعة ٱقتران المباح والواجب، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ليبيّن أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف.

الخامسة: قوله تعالى: { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } اختلف الناس في تفسير هذا الحق ما هو؛ فقال أنس بن مالك وٱبن عباس وطاوس والحسن وٱبن زيد وٱبن الحنفية والضّحاك وسعيد بن المسيب: هي الزكاة المفروضة، العُشْر ونِصْفُ العُشْر. ورواه ٱبن وَهْب وٱبن القاسم عن مالك في تفسير الآية، وبه قال بعض أصحاب الشافعيّ. وحكى الزجاج أن هذه الآيةَ قيل فيها أنها نزلت بالمدينة. وقال عليّ بن الحسين وعطاء والحَكَم وحمّاد وسعيد بن جُبير ومجاهد: هو حقٌّ في المال سوى الزكاة، أمر الله به نَدْباً. وروي عن ابن عمر ومحمد بن الحنفية أيضاً، ورواه أبو سعيد الخُدْرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: إذا حَصَدت فحضرك المساكين فٱطرح لهم من السُّنْبل، وإذا جَذَذت فألق لهم من الشماريخ، وإذا درسته ودسته وذَرّيْته فٱطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته. وقول ثالث هو منسوخ بالزكاة؛ لأن هذه السورة مكية وآية الزكاة لم تنزل إلا بالمدينة: { { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [التوبة: 103]، { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } [البقرة: 43]. روي عن ٱبن عباس وٱبن الحنفية والحسن وعطية العَوْفي والنَّخَعِيّ وسعيد بن جبير. وقال سفيان: سألت السُّدّي عن هذه الآية فقال: نسخها العُشْر ونصف العُشر. فقلت عمّن؟ فقال عن العلماء.

السادسة: وقد تعلّق أبو حنيفة بهذه الآية وبعموم ما في قوله عليه السلام: "فيما سَقَتِ السماءُ العُشْر وفيما سُقِي بنَضْح أو دَالِية نصفُ العُشْر" في إيجاب الزكاة في كل ما تُنبت الأرض طعاماً كان أو غيره. وقال أبو يوسف عنه: إلا الحطب والحشيش والقَضْب والتِّين والسعف وقصَب الذرِيرة وقصب السكر. وأباه الجمهور، معوّلين على أن المقصود من الحديث بيان ما يؤخذ منه العشر وما يؤخذ منه نصف العشر. قال أبو عمر: لا ٱختلاف بين العلماء فيما علمت أن الزكاة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقالت طائفة: لا زكاة في غيرها. رُوي ذلك عن الحسن وٱبنِ سِيرين والشَّعْبيّ. وقال به من الكوفيين ٱبن أبي لَيْلَى والثّورِيّ والحسن بن صالح وٱبن المبارك ويحيى بن آدم، وإليه ذهب أبو عبيد. ورُوي ذلك عن أبي موسى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب أبي موسى، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب؛ ذكره وَكيع عن طلحة بن يحيـى عن أبي بُرْدة عن أبيه. وقال مالك وأصحابه: الزكاة واجبة في كل مُقتات مدخر؛ وبه قال الشافعيّ. وقال الشافعيّ: إنما تجب الزكاة فيما يَيْبس ويُدَّخر ويقتات مأكولاً. ولا شيء في الزيتون لأنه إدام. وقال أبو ثور مثله. وقال أحمد أقوالاً أظهرها أن الزكاة إنما تجب في كل ما قاله أبو حنيفة إذا كان يُوسق؛ فأوجبها في اللَّوْز لأنه مكيل دون الجَوْز لأنه معدود. وٱحتج بقوله عليه السلام: "ليس فيما دون خمسة أوْسُق من تمر أو حب صدقة" قال: فبيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب هو الوَسْقُ، وبيّن المقدار الذي يجب إخراج الحق منه. وذهب النَّخَعِيّ إلى أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجته الأرض، حتى في عشر دَساتِج من بقل دستجةُ بقل. وقد ٱختلف عنه في ذلك، وهو قول عمر بن عبد العزيز فإنه كتب أن يؤخذ مما تنبت الأرض من قليل أو كثير العُشْر؛ ذكره عبد الرازق عن مَعْمَر عن سِماك بن الفضل، قال: كتب عمر...؛ فذكره. وهو قول حماد بن أبي سليمان وتلميذِه أبي حنيفة. وإلى هذا مال ٱبن العربيّ في أحكامه فقال: وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، وأخذ يَعْضُد مذهب الحنفِيّ ويقوّيه. وقال في كتاب (القبس بما عليه الإمام مالك بن أنس) فقال: قال الله تعالى: { وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ }. وٱختلف الناس في وجوب الزكاة في جميع ما تضمنته أو بعضه، وقد بيّنا ذلك، في (الأحكام) لُبَابُه، أن الزكاة إنما تتعلق بالمقْتات كما بيّنا دون الخضراوات؛ وقد كان بالطائف الرمان والفِرسِك والأُتْرُجُّ فما ٱعترضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ذكره ولا أحد من خلفائه.

قلت: هذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة، وأن الخضراوات ليس فيها شيء. وأما الآية فقد ٱختلف فيها، هل هي محكمة أو منسوخة أو محمولة على النَّدْب. ولا قاطع يبين أحد مَحَامِلها، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه: أن الكوفة ٱفتتحت بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعد ٱستقرار الأحكام في المدينة، أفيجوز أن يتوهّم متوهمٌ أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عُطّلت فلم يُعمل بها في دار الهجرة ومُستقَر الوحي ولا في خلافة أبي بكر، حتى عمِل بذلك الكوفيون؟. إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا وقال به!.

قلت: ومما يدلّ على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى: { يَـۤأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة: 67] أتراه يكتم شيئاً أُمِر بتبليغه أو ببيانه؟ حاشاه عن ذلك وقال تعالى: { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [المائدة: 3] ومن كمال الدّين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئاً. وقال جابر بن عبد الله فيما رواه الدّارَقُطْنِيّ: إن المقاثىء كانت تكون عندنا تُخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء. وقال الزُّهْرِيّ والحسن: تُزَكى أثمان الخضر إذا بيعت وبلغ الثمن مائتي درهم؛ وقاله الأوزاعيّ في ثمن الفواكه. ولا حجة في قولهما لما ذكرنا. وقد روى الترمذيّ "عن معاذ أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال: ليس فيها شيء" . وقد رُوي هذا المعنى عن جابر وأنس وعليّ ومحمد بن عبد الله بن جحش وأبي موسى وعائشة. ذكر أحاديثهم الدّارَقُطْنِيّرحمه الله . قال الترمذيّ: ليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. وٱحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة" . قال أبو عمر: وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا، وإنما هو من قول إبراهيم.

قلت: وإذا سقط الاستدلال من جهة السُّنّة لضعف أسانيدها فلم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية، وعموم قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العُشْر" بما ذكرنا. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة. وكان محمد يعتبر في العُصْفر والكَتّان البزر، فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق كان العُصْفر والكتان تبعاً للبزر، وأخذ منه العشر أو نصف العشر. وأما القطن فليس فيه عنده دون خمسة أحمال شيء؛ والحمل ثلثمائة مَنٍّ بالعراقيّ. والوَرْس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمْنَان منها شيء. فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة، عُشْراً أو نصف العشر. وقال أبو يوسف: وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر، ويكون في أرض العُشْر دون أرض الخرَاج، فيه ما في الزعفران. وأوجب عبد الملك بن الماجِشُون الزكاة في أصول الثمار دون البقول. وهذا خلاف ما عليه مالك وأصحابه، لا زكاة عندهم لا في اللَّوز ولا في الجَوْز ولا في الجلَّوْز وما كان مثلها، وإن كان ذلك يدّخَر. كما أنه لا زكاة عندهم في الإجّاص ولا في التفاح ولا في الكُمَّثْرَى، ولا ما كان مثل ذلك كله مما لا ييبس ولا يُدّخر. وٱختلفوا في التين؛ والأشهر عند أهل المغرب ممن يذهب مذهب مالك أنه لا زكاة عندهم في التّين. إلا عبد الملك بن حبيب فإنه كان يرى فيه الزكاة على مذهب مالك، قياساً على التمر والزبيب. وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم البغداديين المالكيين، إسماعيل بن إسحاق ومن ٱتبعه. قال مالك في الموطّأ: السنّة التي لا ٱختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم، أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمّان والفِرْسَك والتّين وما أشبه ذلك. وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه. قال أبو عمر: فأدخل التّين في هذا الباب، وأظنه (والله أعلم) لم يعلم بأنه يُيْبَس ويُدّخَر ويُقتات، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب؛ لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان. وقد بلغني عن الأبْهَرِيّ وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يُفتون بالزكاة فيه، ويرونه مذهب مالك على أصوله عندهم. والتين مكيل يراعى فيه الخمسة الأوْسُق وما كان مثلها وَزْناً، ويُحكم في التين عندهم بحكم التمر والزبيب المجتمع عليهما. وقال الشافعيّ: لا زكاة في شيء من الثمار غير التمر والعنب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما وكانا قوتاً بالحجاز يدّخر. قال: وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما؛ لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتاً فيما علمت، وإنما كانا فاكهة. ولا زكاة في الزيتون؛ لقوله تعالى: { وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ }. فقرنه مع الرمان، ولا زكاة فيه. وأيضاً فإن التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه. وللشافعيّ قول بزكاة الزيتون قاله بالعراق، والأوّل قاله بمصر؛ فاضطرب قول الشافعيّ في الزيتون، ولم يختلف فيه قول مالك. فدلّ على أن الآية محكمة عندهما غير منسوخة. وٱتفقا جميعاً على أن لا زكاة في الرمّان، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه. قال أبو عمر: فإن كان الرمّان خرج باتفاق فقد بان بذلك المراد بأن الآية ليست على عمومها، وكان الضمير عائداً على بعض المذكور دون بعض. والله أعلم.

قلت: بهذا ٱستدل من أوجب العشر في الخضراوات فإنه تعالى قال: { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } والمذكور قبله الزيتون والرمّان، والمذكور عقيب جملة ينصرف إلى الأخير بلا خلاف؛ قاله الكِيَا الطبريّ. ورُوي عن ابن عباس أنه قال: ما لَقِحت رمّانة قط إلا بقطرة من ماء الجنة. وروي عن عليّ كرّم الله وجهه أنه قال: إذا أكلتم الرمّانة فكلوها بشحمها فإنها دباغ المعدة. وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق عن ٱبن عباس قال: لا تكسروا الرمانة من رأسها فإن فيها دُودةً يعتري منها الْجُذام. وسيأتي منافع زيت الزيتون في سورة «المؤمنون» إن شاء الله تعالى. وممن قال بوجوب زكاة الزيتون الزُّهْرِي والأوزاعيّ والليث والثوريّ وأبو حنيفة وأصحابُه وأبو ثور. قال الزهريّ والأوزاعيّ والليث: يُخْرَصُ زيتوناً ويؤخذ زيتاً صافياً. وقال مالك: لا يخرص، ولكن يؤخذ العُشر بعد أن يُعصر ويبلُغ كيله خمسة أوْسق. وقال أبو حنيفة والثورِيّ: يؤخذ من حبه.

السابعة: قوله تعالى: { يَوْمَ حَصَادِهِ } قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم «حَصَادِهِ» بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان مشهورتان؛ ومثله الصِّرام والصَّرام والجَذاذ والجِذَاذ والقَطَاف والقِطاف. واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال:

الأوّل: أنه وقت الجذاذ؛ قاله محمد بن مَسْلمة؛ لقوله تعالى: «يَوْم حَصَادِهِ».

الثاني: يوم الطِّيب؛ لأن ما قبل الطيب يكون عَلفاً لا قُوتاً ولا طعاماً؛ فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به وجب الحقّ الذي أمر الله به، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة، ويكون الإيتاء وقت الحصاد لما قد وجب يوم الطِّيب.

الثالث: أنه يكون بعد تمام الخَرْص؛ لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطاً لوجوبها. أصله مجيء الساعي في الغنم؛ وبه قال المُغيرة. والصحيح الأوّل لنص التنزيل. والمشهور من المذهب الثاني، وبه قال الشافعي. وفائدة الخلاف إذا مات بعد الطِّيب زكّيت على ملكه، أو قبل الخَرْص على ورثته. وقال محمد بن مسلمة: إنما قدّم الخرص توسعةً على أرباب الثمار، ولو قدّم رجل زكاته بعد الخَرْص وقبل الجذاذ لم يُجْزه؛ لأنه أخرجها قبل وجوبها. وقد ٱختلف العلماء في القول بالخرص وهي: ـ

الثامنة: فكرِهه الثوريّ ولم يُجْزِه بحال، وقال: الخرص غير مستعمل. قال: وإنما على ربِّ الحائط أن يؤدّيَ عشر ما يصير في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوْسُق. وروى الشيبانِيّ عن الشعبيّ أنه قال: الخرص اليومَ بدعةٌ. والجمهور على خلاف هذا، ثم ٱختلفوا فالمعظم على جوازه في النخل والعنب؛ لحديث عَتَّاب بن أَسِيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأمره أن يَخْرُص العنب كما يَخْرُص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ زكاة النخل تمراً. رواه أبو داود. وقال داود بن عليّ: الخرص للزكاة جائز في النخل، وغير جائز في العنب؛ ودفع حديث عتّاب بن أَسِيد لأنه منقطع ولا يتّصل من طريق صحيح، قاله أبو محمد عبد الحق.

التاسعة: وصفة الخرص أن يُقَدّر ما على نخله رطباً ويقدّر ما ينقص لو يُتَمّر، ثم يعتدّ بما بقي بعد النقص ويضيف بعض ذلك إلى بعض حتى يكمل الحائط، وكذلك في العنب في كل دالية.

العاشرة: ويكفي في الخرص الواحدُ كالحاكم. فإذا كان في التمر زيادة على ما خرص لم يلزم ربَّ الحائط الإخراجُ عنه، لأنه حكمٌ قد نفذ؛ قاله عبد الوهاب. وكذلك إذا نقص لم تنقص الزكاة. قال الحسن: كان المسلمون يُخْرَص عليهم ثم يؤخذ منهم على ذلك الخرص.

الحادية عشرة: فإن استكثر ربّ الحائط الخرص خيّره الخارص في أن يعطيَه ما خَرَص وأخذ خرصه؛ ذكره عبد الرزاق أخبرنا ابن جُريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: خَرَص ٱبن رواحة أربعين ألف وَسْق، وزعم أن اليهود لما خيّرهم أخذوا التمر وأعطوه عشرين ألف وَسْق. قال ابن جريج فقلت لعطاء: فحقٌّ على الخارص إذا استكثر سَيِّدُ المال الخَرْص أن يخيّره كما خيّر ابنُ رواحة اليهودَ؟ قال: أي لعمري! وأيّ سُنّة خيرٌ من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الثانية عشرة: ولا يكون الخرص إلا بعد الطِّيب؛ لحديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث ٱبن رواحة إلى اليهود فَيَخْرُص عليهم النخلَ حين تطيب أوَّل التمرة قبل أن يؤكل منها، ثم يخيّر يهوداً يأخذونها بذلك الخرص أو يدفعونها إليه. وإنما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتُفَرّق. أخرجه الدّارَقُطْنِيّ من حديث ابن جريج عن الزهريّ عن عروة عن عائشة. قال: ورواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهرِيّ عن ابن المسيِّب عن أبي هريرة، وأرسله مالك ومَعْمر وعقيل عن الزهريّ عن سعيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

الثالثة عشرة: فإذا خَرص الخارص فحكمه أن يُسقط من خرصه مقداراً مَا؛ لما رواه أبو داود والترمذيّ والبُسْتِيّ في صحيحه عن سهل بن أبي حَثْمة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إذا خرصتم فخذوا ودَعُوا الثلث فإن لم تدَعوا الثلث فدعوا الرّبع" . لفظ الترمذي. قال أبو داود: الخارص يدع الثلث للخُرْفة. وكذا قال يحيـى القَطّان. وقال أبو حاتم البُسْتِيّ: لهذا الخبر صفتان: أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر، والثاني أن يترك ذلك من نفس التمر قبل أن يُعشر، إذا كان ذلك حائطاً كبيراً يحتمله. الخُرْفة بضم الخاء: ما يُخْتَرَف من النخل حين يُدْرِك ثمره، أي يُجْتَنَى. يقال: التمر خرفةُ الصائم؛ عن الجوهرِيّ والهَروِيّ. والمشهور من مذهب مالك أنه لا يَترك الخارصُ شيئاً في حين خَرصه من تمر النخل والعنب إلا خَرَصه. وقد روى بعض المدنيين أنه يخفف في الخرص ويترك للعَرايا والصّلة ونحوها.

الرابعة عشرة: فإن لَحِقت الثمرة جائحةٌ بعد الخرص وقبل الجذاذ سقطت الزكاة عنه بإجماع من أهل العلم، إلا أن يكون فيما بقي منه خمسة أوْسق فصاعداً.

الخامسة عشرة: ولا زكاة في أقل من خمسة أوْسق، كذا جاء مبيَّناً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهو في الكتاب مُجْمَل، قال الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ } [البقرة: 267]. وقال تعالى: «وَآتُوا حَقَّهُ». ثم وقع البيان بالعُشر ونصف العُشر. ثم لما كان المقدار الذي إذا بلغه المال أخذ منه الحق مُجملاً بيّنه أيضاً فقال: "ليس فيما دون خمسة أوْسق من تمر أو حب صدقة" وهو ينفي الصدقة في الخضراوات، إذ ليس مما يُوسق؛ فمن حصل له خمسة أوْسق في نصيبه من تمر أو حب وجبت عليه الزكاة، وكذلك من زبيب؛ وهو المسمَّى بالنصاب عند العلماء. يقال: وِسْق ووَسْق (بكسر الواو وفتحها) وهو ستون صاعاً، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغداديّ ومبلغ الخمسة الأوْسق من الأمداد ألف مدّ ومائتا مدّ، وهي بالوزن ألف رِطل وستمائة رِطل.

السادسة عشرة: ومن حصل له من تمر وزبيب معاً خمسةُ أوْسُق لم تلزمه الزكاة إجماعاً؛ لأنهما صنفان مختلفان. وكذلك أجمعوا على أنه لا يضاف التمر إلى البُر ولا البر إلى الزبيب؛ ولا الإبل إلى البقر، ولا البقر إلى الغنم. ويضاف الضأن إلى المَعْز بإجماع. واختلفوا في ضم البُرّ إلى الشعير والسَّلْت وهي: ـ

السابعة عشرة: فأجازه مالك في هذه الثلاثة خاصّةً فقط؛ لأنها في معنى الصِّنف الواحد لتقاربها في المنفعة واجتماعها في المنبت والمحصد، وافتراقها في الاسم لا يوجب افتراقها في الحكم كالجواميس والبقر، والمعز والغنم. وقال الشافعيّ وغيره: لا يجمع بينها؛ لأنها أصناف مختلفة، وصفاتها متباينة، وأسماؤها متغايرة، وطعمها مختلف؛ وذلك يوجب افتراقها. والله أعلم. قال مالك: والقَطَانيّ كلها صِنف واحد، يُضَمّ بعضها إلى بعض. وقال الشافعيّ: لا تُضم حبة عُرفت باسم منفرد دون صاحبتها، وهي خلافها مباينة في الخلقة والطعم إلى غيرها. ويُضَمُّ كل صنف بعضه إلى بعض، رَدِيئهُ إلى جَيّده؛ كالتمر وأنواعه، والزبيب أسودِه وأحمره، والحنطةِ وأنواعها من السمراء وغيرها. وهو قول الثَّوْرِيّ وأبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد وأبي ثور. وقال اللّيث: تُضم الحبوب كلها: القُطنية وغيرها بعضها إلى بعض في الزكاة. وكان أحمد بن حنبل يَجبُن عن ضم الذهب إلى الوَرِق، وضم الحبوب بعضها إلى بعض، ثم كان في آخر أمره يقول فيها بقول الشافعيّ.

الثامنة عشرة: قال مالك: وما استهلكه منه ربُّه بعد بُدُوِّ صلاحه أو بعد ما أفْرك حسِب عليه، وما أعطاه ربُّه منه في حصاده وجذاذه، ومن الزيتون في التقاطه، تَحَرّى ذلك وحُسب عليه. وأكثر الفقهاء يخالفونه في ذلك، ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدَّرْس. قال الليث في زكاة الحبوب: يُبدأ بها قبل النفقة، وما أكل من فرِيك هو وأهله فلا يحسب عليه، بمنزلة الرّطب الذي يترك لأهل الحائط يأكلونه فلا يُخْرَص عليهم. وقال الشافعيّ: يترك الخارِصُ لربّ الحائط ما يأكله هو وأهله رطباً، لا يَخْرصه عليهم. وما أكله وهو رطب لم يُحسب عليه. قال أبو عمر: ٱحتج الشافعيّ ومن وافقه بقول الله تعالى: { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }. وٱستدلّوا على أنه لا يُحتسب بالمأكول قبل الحصاد بهذه الآية. وٱحتجوا بقوله عليه السلام: "إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" . وما أكلت الدواب والبقر منه عند الدّرس لم يُحسب منه شيء على صاحبه عند مالك وغيره.

التاسعة عشرة: وما بيع من الفول والحِمّص والجُلبان أخضر؛ تحرّى مقدار ذلك يابساً وأخرجت زكاته حبًّا. وكذا ما بيع من الثمر أخضر ٱعتبر وتُوُخّى وخرص يابساً وأخرجت زكاته على ذلك الخرص زبيباً وتمراً. وقيل: يخرج من ثمنه.

الموفية عشرين: وأما ما لا يتتمّر من ثمر النخل ولا يتزبّب من العنب كعنب مصر (وبلحها)، وكذلك زيتونها الذي لا يُعصر، فقال مالك: تخرج زكاته من ثمنه، لا يكلّف غير ذلك صاحبه، ولا يراعَى فيه بلوغ ثمنه عشرين مثقالاً أو مائتي درهم، وإنما ينظر إلى ما يرى أنه يبلغه خمسة أوسق فأكثر. وقال الشافعيّ: يخرج عشره أو نصف عشره من وسطه تمراً إذا أكله أهله رطباً أو أطعموه.

الحادية والعشرون: روى أبو داود عن ٱبن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بَعْلاً العشر، وفيما سُقي بالسواني أو النَّضْح نصف العشر وكذلك إن كان يشرب سَيْحاً فيه العشر" . وهو الماء الجاري على وجه الأرض؛ قاله ٱبن السِّكِّيت. ولفظ السَّيْح مذكور في الحديث، خرّجه النَّسائيّ. فإن كان يشرب بالسّيح لكن ربّ الأرض لا يملك ماء وإنما يكتريه له فهو كالسماء؛ على المشهور من المذهب. ورأى أبو الحسن اللخميّ أنه كالنضح؛ فلو سُقي مرّة بماء السماء ومَرّة بداليِة؛ فقال مالك: يُنظر إلى ما تمّ به الزرع وحيـي وكان أكثر؛ فيتعلّق الحكم عليه. هذه رواية ٱبنِ القاسم عنه. ورَوى عنه ٱبن وهب: إذا سُقي نصف سنة بالعيون ثم انقطع فسُقي بقيّة السنة بالناضح فإنّ عليه نصف زكاته عشراً، والنصف الآخر نصف العشر. وقال مَرّة: زكاته بالذي تمت به حياته. وقال الشافعيّ: يُزَكَّى كلُّ واحد منهما بحسابه. مثاله أن يشرب شهرين بالنضح وأربعة بالسماء؛ فيكون فيه ثلثا العشر لماء السماء وسدس العشر للنضح! وهكذا ما زاد ونقص بحسابه. وبهذا كان يفْتي بكّار بن قتيبة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يُنظر إلى الأغلب فيزكّى، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك. وروي عن الشافعيّ. قال الطحاوِيّ: قد ٱتفق الجميع على أنه لو سقاه بماء المطر يوماً أو يومين أنه لا ٱعتبار به، ولا يجعل لذلك حصّة؛ فدلّ على أن الاعتبار بالأغلب، والله أعلم.

قلت: فهذه جملة من أحكام هذه الآية، ولعلّ غيرنا يأتي بأكثَر منها على ما يفتح الله له. وقد مضى في «البقرة» جملة من معنى هذه الآية، والحمد لله.

الثانية والعشرون: وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في حب ولا تمر صدقة" فخرّجه النَّسائيّ. قال حمزة الكِنانيّ: لم يذكر في هذا الحديث «في حب» غير إسماعيل بن أمَيّة، وهو ثقة قرشِيّ من ولد سعيد بن العاص. قال: وهذه السّنة لم يروها أحد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أصحابه غير أبي سعيد الخُدْرِيّ. قال أبو عمر: هو كما قال حمزة، وهذه سنة جليلة تلقّاها الجميع بالقبول، ولم يروها أحد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت محفوظٍ غيرُ أبي سعيد. وقد روى جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ولكنه غريب. وقد وجدناه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن.

الثالثة والعشرون: قوله تعالى: { وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } الإسراف في اللغة الخطأ. وقال أعرابي أراد قوماً: طلبتكم فَسَرِفْتكم؛ أي أخطأت موضعكم. وقال الشاعر:

وقال قائلهم والخيلُ تخبِطُهمأسرفتم فأجبنا أننا سَرَف

والإسراف في النفقة: التبذير. ومُسرف لقب مسلم بن عُقْبَةَ المُرِّي صاحب وقعة الحَرَّة؛ لأنه قد أسرف فيها. قال عليّ بن عبد الله بن العباس:

هُمُ منعوا ذِمارِي يوم جاءتكتائبُ مُسْرِفٍ وبنِي اللَّكِيعهْ

والمعنى المقصود من الآية: لا تأخذوا الشيء بغير حقه ثم تضعوه في غير حقه؛ قاله أصْبَغ بن الفرج. ونحوه قول إياس بن معاوية: ما جاوزتَ به أمر الله فهو سَرَف وإسراف. وقال ٱبن زيد: هو خطاب للوُلاة، يقول: لا تأخذوا فوق حقكم وما لا يجب على الناس. والمعنيان يحتملهما قوله عليه السلام: "المُعْتَدِي في الصدقة كمانِعها" . وقال مجاهد: لو كان أبو قُبيس ذهباً لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مُسْرفاً، ولو أنفق درهماً أو مُدًّا في معصية الله كان مسرفاً. وفي هذا المعنى قيل لحاتم: لا خير في السّرف؛ فقال: لا سَرَف في الخير.

قلت: وهذا ضعيف؛ يردّه ما رَوى ٱبن عباس أن ثابت بن قَيس بن شَمّاس عَمَد إلى خمسمائة نخلة فجذّها ثم قسّمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئاً؛ فنزلت: «وَلاَ تُسْرِفُوا» أي لا تعطوا كلّه. وروى عبد الرزاق عن ٱبن جريج قال: جَذّ معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدّق حتى لم يبق منه شيء: فنزل «ولا تسرفوا». قال السدّي: «ولا تسرفوا» أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. ورُوي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله تعالى: «وَلاَ تُسْرِفُوا» قال: الإسراف ما قصّرتَ عن حق الله تعالى.

قلت: فعلى هذا تكون الصدقة بجميع المال ومنع إخراج حق المساكين داخلين في حكم السرف، والعدل خلاف هذا؛ فيتصدق ويُبقي كما قال عليه السلام: "خير الصدقة ما كان عن ظَهْرِ غِنًى" إلا أن يكون قوِيّ النفس غنيًّا بالله متوكّلاً عليه منفرداً لا عيال له، فله أن يتصدّق بجميع ماله، وكذلك يخرج الحق الواجب عليه من زكاة وما يَعُنّ في بعض الأحوال من الحقوق المتعيّنة في المال. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الإسراف ما لم يقدر على ردّه إلى الصلاح. والسّرَف ما يقدر على ردّه إلى الصلاح. وقال النّضْر بن شُميل: الإسراف التبذير والإفراط، والسرف الغفلة والجهل. قال جرير:

أعْطَوْا هُنيدةَ يحدُوها ثمانيةما في عطائِهمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ

أي إغفال، ويقال: خطأ. ورجلٌ سَرِف الفؤاد، أي مخطىء الفؤاد غافله. قال طَرفة:

إنّ ٱمرأً سَرِفَ الفُؤاد يرىعَسلاً بماء سحابة شَتْمِي