التفاسير

< >
عرض

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٤
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٥
وَإِسْمَاعِيلَ وَٱلْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى ٱلْعَالَمِينَ
٨٦
-الأنعام

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث مسائل:

الأولى: قوله تعالى: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي جزاءً له على الاحتجاج في الدِّين وبذل النفس فيه. { كُلاًّ هَدَيْنَا } أي كل واحد منهم مهتد. و«كُلاًّ» نصب بـ«هدينا» { وَنُوحاً } نصب بـ«هدينا» الثاني. { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } أي ذرّية إبراهيم. وقيل: من ذرية نوح؛ قاله الفرّاء وٱختاره الطَّبريّ وغير واحد من المفسرين كالقُشيرِيّ وابن عطية وغيرهما. والأوّل قاله الزجاج، واعترض بأنه عُدّ من (هذه) الذرّية يونس ولوط وما كانا من ذرّية إبراهيم. وكان لوطٌ ابن أخيه. وقيل: ابنَ أختِه. وقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء جميعاً مضافون إلى ذرّية إبراهيم، وإن كان فيهم مَن لم تلحقه وِلادة من جهته من جهة أب ولا أمّ؛ لأن لوطاً ٱبن أخي إبراهيم. والعرب تجعل العَمَّ أباً كما أخبر الله عن ولد يعقوب أنهم قالوا: { نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [البقرة: 133]. وإسماعيل عمُّ يعقوب. وعدّ عيسى من ذريّة إِبراهيم وإنما هو ٱبن البنت. فأولاد فاطمة رضي الله عنها ذرّية النبيّ صلى الله عليه وسلم. وبهذا تمسّك من رأى أن ولد البنات يدخلون في اسم الولد وهي: ـ

الثانية: قال أبو حنيفة والشافعيّ: من وقَف وقفاً على ولده وولد ولده أنه يدخل فيه ولد ولده وولد بناته ما تناسلوا. وكذلك إذا أوصى لقرابته يدخل فيه ولد البنات. والقرابة عند أبي حنيفة كلُّ ذي رَحِم مَحْرم. ويسقط عنده ٱبن العَمّ والعمة وابن الخال والخالة؛ لأنهم ليسوا بمَحْرمين. وقال الشافعيّ: القرابة كلّ ذي رحم مَحرَم وغيره. فلم يسقط عنده ابن العمّ ولا غيره. وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولد البنات. وقوله: لقرابتي وعقبي كقوله: لولدي وولد ولدي. يدخل في ذلك ولد البنين ومن يرجع إلى عَصَبة الأب وصُلْبه، ولا يدخل في ذلك ولد البنات. وقد تقدّم نحو هذا عن الشافعيّ في «آل عمران». والحجة لهما قوله سبحانه: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ } [النساء: 11] فلم يَعقِل المسلمون من ظاهر الآية إلا ولدَ الصُّلْب وولد الابن خاصّةً. وقال تعالى: { { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ } [الأنفال: 41] فأعطى عليه السلام القرابة منهم من أعمامه دون بني أخواله. فكذلك ولد البنات لا ينتمون إليه بالنسب، ولا يلتقون معه في أب. قال ابن القصّار: وحجة من أدخل البنات في الأقارب "قولُه عليه السلام للحسن بن عليّ: إن ٱبني هذا سيّد" . ولا نعلم أحداً يمتنع أن يقول في ولد البنات إنهم ولد لأبي أمّهم. والمعنى يقتضي ذلك؛ لأن الولد مشتق من التولُّد وهم متولدون عن أبي أمّهم لا محالة؛ والتولّد من جهة الأمّ كالتولّد من جهة الأب. وقد دلّ القرآن على ذلك، قال الله تعالى: { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } إلى قوله: { مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } فجعل عيسى من ذرّيته وهو ٱبن ٱبنته.

الثالثة: قد تقدّم في «النساء» بيان ما لا ينصرف من هذه الأسماء. ولم ينصرف داود لأنه ٱسم أعجمِيّ، ولمّا كان على فاعول لا يحسُن فيه الألف واللام لم ينصرف. وإلياس أعجمِيّ. قال الضحاك: كان إلياس من ولد إسماعيل. وذكر القُتَبي قال: كان من سِبط يُوشع بن نون. وقرأ الأعرج والحسن وقَتادة «وٱلياس» بوصل الألف. وقرأ أهل الحَرَمين وأبو عمرو وعاصم «والْيَسَع» بلام مخففة. وقرأ الكوفيون إلا عاصماً «واللَّيْسع». وكذا قرأ الكسائِيّ، وردّ قراءة من قرأ «والْيَسع» قال: لأنه لا يقال اليَفْعَل مثل الْيَحْيَـى. قال النحاس: وهذا الردّ لا يلزم، والعرب تقول: الْيَعْمَل والْيحْمَد، ولو نكّرت يحيى لقلت اليحيى. وردّ أبو حاتم على من قرأ «اللَّيْسع» وقال: لا يوجد لَيْسع. وقال النحاس: وهذا الرّد لا يلزم، فقد جاء في كلام العرب حَيْدَر وزَيْنَب، والحَقُّ في هذا أنه ٱسم أعجمِيّ، والعُجْمة لا تؤخذ بالقياس إنما تؤخذ سماعاً والعرب تغيّرها كثيراً، فلا يُنكر أن يأتي الإسم بلغتين. قال مَكِّيّ: من قرأ بلامين فأصل الاسم لَيْسع، ثم دخلت الألف واللام للتعريف. ولو كان أصله يسع ما دخلته الألف واللام؛ إذ لا يدخلان على يزيد ويشكر: ٱسمين لرجلين؛ لأنهما معرفتان علَمان. فأما «ليسع» نكرة فتدخله الألف واللام للتعريف، والقراءة بلام واحدة أحبّ إليّ؛ لأن أكثر القراء عليه. وقال المَهْدَوِيّ: من قرأ «اليسع» بلام واحدة فالاسم يسع، ودخلت الألف واللام زائدتين، كزيادتهما في نحو الخمسة عشر، وفي نحو قوله:

وَجَدْنا اليَزِيدَ بنَ الوليد مباركاًشديداً بأعباء الخلافة كاهِلُه
وقد زادوها في الفعل المضارع نحو قوله: فيستخرج اليَرْبُوع من نافِقَائه
ومن بيته بالشِّيخة الْيَتَقَصّعُ

يريد الذي يتقصّع. قال القُشَيْريّ: قرىء بتخفيف اللام والتشديد. والمعنى واحد في أنه ٱسم لنبيّ معروف؛ مثل إسماعيل وإبراهيم، ولكن خرج عما عليه الأسماء الأعجمية بإدخال الألف واللام. وتوهّم قوم أن اليسع هو إلياس، وليس كذلك؛ لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذِّكر. وقال وهب: اليسع هو صاحب إلياس، وكانا قبل زكرياء ويحيـى وعيسى. وقيل: إلياس هو إدريس وهذا غير صحيح لأن إدريس جدّ نوح وإلياس من ذرّيته. وقيل: إلياس هو الخضر. وقيل: لا، بل الْيَسع هو الخضر. «ولوطاً» اسم أعجميّ انصرف لخفّته. وسيأتي اشتقاقه في «الأعراف».