التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٢
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٣
-الصف

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأولى ـ: قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } روى الدَّارِمي أبو محمد في مسنده أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سَلاَم قال: قَعَدَنا نَفَرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله تعالى لعملناه؛ فأنزل الله تعالى { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } حتى ختمها. قال عبد الله: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها. قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سَلاَم. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة وقرأها علينا يحيى وقرأها علينا الأوزاعي وقرأها علينا محمد. وقال ابن عباس قال عبد الله بن رَوَاحة: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى الله لعملناه.

فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي: قال المؤمنون يا رسول الله، لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لسارعنا إليها؛ فنزلت { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } فمكثوا زماناً يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؛ فدلهم الله تعالى عليها بقوله: { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } الآية. فابْتُلُوا يوم أُحُد ففرّوا؛ فنزلت تعيّرهم بترك الوفاء. وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر قالت الصحابة: اللهم اشهد! لئن لقينا قتالاً لنُفْرِغَنّ فيه وُسْعَنا؛ ففروا يوم أُحُد فعيّرهم الله بذلك. وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون: نحن جاهدنا وأبْلَيْنا ولم يفعلوا. وقال صُهيب: " كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر وأنكاهم فقتلته. فقال رجل يا نبيّ الله، إني قتلت فلانا، ففرح النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك. فقال عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عَوْف: يا صُهيب، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلانا! فإن فلانا انتَحَل قتله؛ فأخبره فقال:أكذلك يا أبا يحيى؟ قال نعم، والله يا رسول الله" ؛ فنزلت الآية في المنتحِل. وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين؛ كانوا يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا؛ فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا.

الثانية ـ: هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى أنه بعث إلى قرّاء أهل البصرة فدخل عليه ثلثمائة رجلٍ قد قرءوا القرآن؛ فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم، فاتْلُوه ولا يَطُولَنّ عليكم الأمد فتَقْسُوَ قلوبكم كما قستْ قلوب من كان قبلكم. وإنا كنا نقرأ سورةً كنا نشبهها في الطُّول والشدة بـ «براءة» فأنْسيتها؛ غير أني قد حفِظت منها «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب». وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المُسبِّحات فأنسيتها؛ غير أني حفظت منها { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } فَتُكْتَب شهادةً في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدِّين. أما قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } فثابت في الدِّين لفظاً ومعنىً في هذه السورة. وأما قوله: شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة فمعنىً ثابتٌ في الدّين؛ فإن من التزم شيئاً لزمه شرعاً. والملتَزَم على قسمين: أحدهما ـ النذر، وهو على قسمين، نذرُ تقرّب مبتدأ كقوله: لله عليّ صلاة وصوم وصدقة، ونحوه من القُرَب. فهذا يلزم الوفاء به إجماعاً. ونذرُ مباحٍ وهو ما علّق بشرط رغبة، كقوله: إن قدم غائبي فعليّ صدقة، أو عُلّق بشرط رهبة، كقوله: إن كفاني الله شرّ كذا فعليّ صدقة. فاختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة: يلزمه الوفاء به. وقال الشافعي في أحد أقواله: إنه لا يلزمه الوفاء به. وعموم الآية حجة لنا، لأنها بمطلقها تتناول ذمّ من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط. وقد قال أصحابه: إن النذر إنما يكون بما القصد منه القُرْبة مما هو من جنس القربة. وهذا وإن كان من جنس القربة لكنه لم يقصد به القربة، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الإقدام على فعل. قلنا: القرب الشرعية مَشَقّات وكُلَف وإن كانت قربات. وهذا تكلّف التزام هذه القربة بمشقة لجَلْب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن سَنَن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعداً فلا يخلو أن يكون منوطاً بسبب كقوله: إن تزوّجت أعنتُك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا. فهذا لازم إجماعاً من الفقهاء. وإن كان وعداً مجرّداً فقيل يلزم بتعلقه. وتعلقوا بسبب الآية، فإنه روي أنهم كانوا يقولون: لو نعلم أيّ الأعمال أفضل أو أحبّ إلى الله لعملناه، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وهو حديث لا بأس به. وقد روي عن مجاهد أن عبد الله بن رَوَاحة لما سمعها قال: لا أزال حبيساً في سبيل الله حتى أقْتل. والصحيح عندي: أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر.

قلت: قال مالك: فأما العِدَة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يَهَب له الهبة فيقول له نعم؛ ثم يبدو له ألاّ يفعل فما أرى ذلك يلزمه. وقال ابن القاسم: إذا وعَد الغرماء فقال: أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدّى إليكم؛ فإن هذا يلزمه. وأما أن يقول نعم أنا أفعل؛ ثم يبدو له، فلا أرى عليه ذلك.

قلت: أي لا يقضى عليه بذلك؛ فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنَعَم. وقد أثنى الله تعالى على من صَدَق وعده ووَفَى بنذره فقال: { { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [البقرة:177]، وقال تعالى: { { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } [مريم:54] وقد تقدم بيانه.

الثالثة ـ: قال النَّخَعِيّ: ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس { { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة:44] { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [هود:88]، { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }. وخرّج أبو نُعيم الحافظ من حديث مالك بن دِينار عن ثُمَامة أن " أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أتيت ليلة أسْرِيَ بي على قوم تُقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قُرضت وَفَت قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرءون كتاب الله ولا يعملون" . وعن بعض السلف أنه قيل له: حدِّثْنا؛ فسكت. ثم قيل له: حدِّثنا. فقال: أتروْنني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله!

الرابعة ـ: قوله تعالى: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله. أما في الماضي فيكون كذباً، وأما في المستقبل فيكون خُلْفاً، وكلاهما مذموم. وتأول سفيان بن عُيَينة قوله تعالى: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم، فلا تدرون هل تفعلون أو لاتفعلون. فعلى هذا يكون الكلام محمولاً على ظاهره في إنكار القول.

الخامسة ـ: قوله تعالى: { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } قد يحتج به في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب على أحد قولي الشافعي. و «أَنْ» وقع بالابتداء وما قبلها الخبر؛ وكأنه قال: قولكم ما لا تفعلون مذموم، ويجوز أن يكون خبر ابتداء محذوف. الكسائي: «أن» في موضع رفع؛ لأن «كَبُرَ» فعلٌ بمنزلة بئس رجلاً أخوك. و «مَقْتاً» نصب بالتمييز؛ المعنى كبر قولهم ما لا يفعلون مقتاً. وقيل: هو حال. والمقت والمَقَاتة مصدران؛ يقال: رجل مَقِيت وممقوت إذا لم يحبه الناس.