التفاسير

< >
عرض

وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٠
وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١١
-المنافقون

الجامع لاحكام القرآن

فيه أربع مسائل:

الأولى ـ: قوله تعالى: { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } يدل على وجوب تعجيل أداء الزكاة، ولا يجوز تأخيرها أصلاً. وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها.

الثانية ـ: قوله تعالى: { فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } سأل الرجعة إلى الدنيا ليعمل صالحاً. وروى الترمذي عن الضحاك بن مُزاحم عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلِّغه حجّ بيت رَبّه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل، سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل: يا بن عباس، اتق الله، إنما سأل الرجعةَ الكفارُ. فقال: سأتلو عليك بذلك قرآناً { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنِيۤ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }. إلى قوله ـ { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال: فما يوجب الزكاة؟ قال: إذا بلغ المال مائتين فصاعداً. قال: فما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة.

«قلت»: ذكره الحَلِيمِيّ أبو عبد الله الحسين بن الحسن في كتاب (مِنهاج الدِّين) مرفوعاً فقال: وقال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان عنده مال يبلّغه الحج..." الحديث؛ فذكره. وقد تقدم في «آل عمران» لفظه.

الثالثة ـ: قال ابن العربِيّ: «أخذ ابن عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصّةً دون النفل؛ فأما تفسيره بالزكاة فصحيح كله عموماً وتقديراً بالمائتين. وأما القول في الحج ففيه إشكال؛ لأنّا إن قلنا: إن الحج على التراخي ففي المعصية في الموت قبل الحج خلاف بين العلماء؛ فلا تُخَرَّج الآية عليه. وإن قلنا: إن الحج على الفور فالآية في العموم صحيح؛ لأن من وجب عليه الحج فلم يؤدّه لقي من الله ما يودّ أنه رجع ليأتي بما ترك من العبادات. وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء. وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل؛ لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها، وإنما يدخل في المتفق عليه. والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق كيف تصرف بالإجماع أو بنص القرآن؛ لأجل أن ما عدا ذلك لا يتطرق إليه تحقيق الوعيد.

الرابعة ـ: قوله تعالى: { لَوْلاۤ } أي هَلاَّ؛ فيكون استفهاماً. وقيل: «لا» صلة؛ فيكون الكلام بمعنى التمني. { فَأَصَّدَّقَ } نصب على جواب التمني بالفاء. { وَأَكُن } عطف على «فَأَصَّدَّقَ» وهي قراءة أبي عمرو وابن مُحَيْصِن ومجاهد. وقرأ الباقون «وَأَكُنْ» بالجزم عطفاً على موضع الفاء؛ لأن قوله: «فَأَصَّدَّق» لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً؛ أي أصدق. ومثله: { { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [الأعراف:186] فيمن جزم. قال ابن عباس: هذه الآية أشدّ على أهل التوحيد؛ لأنه لا يتمنَّى الرجوع في الدنيا أو التأخير فيها أحد له عند الله خير في الآخرة.

قلت: إلا الشهيد فإنه يتمنَّى الرجوع حتى يقتل، لما يرى من الكرامة. { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من خير وشر. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ أبو بكر عن عاصم والسُّلَميّ بالياء؛ على الخبر عمن مات وقال هذه المقالة.

(تمت السورة بحمد الله وعونه).