التفاسير

< >
عرض

فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٦
إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ
١٧
-التغابن

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ }.

فيه خمس مسائل:

الأولى ـ: ذهب جماعة من أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: { { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [آل عمران:102] منهم قتادة والربيع بن أنس والسُّدّي وابن زيد. ذكر الطَّبَري: وحدّثني يونس بن عبد الأعلى قال أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } قال: جاء أمر شديد، قالوا: ومنَ يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلما عرف الله أنه قد اشتد ذلك عليهم نسخها عنهم وجاء بهذه الآية الأخرى فقال: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ }. وقيل: هي محكمة لا نسخ فيها. وقال ابن عباس: قوله تعالى: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } إنها لم تنسخ، ولكن حق تقاته أن يجاهد لله حَق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومة لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقد تقدم.

الثانية ـ: فإن قيل: فإذا كانت هذه الآية محكمة غير منسوخة فما وجه قوله في سورة «التغابن»: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } وكيف يجوز اجتماع الأمر باتقاء الله حقّ تُقاته، والأمر باتقائه ما استطعنا. والأمر باتقائه حقّ تقاته إيجاب القرآن بغير خصوص ولا وصل بشرط، والأمر باتقائه ما استطعنا امرٌ باتقائه موصولاً بشرط. قيل له: قوله: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } بمعزل مما دل عليه قوله تعالى: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } وإنما عنى بقوله: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } فاتقوا الله أيها الناس وراقبوه فيما جُعل فتنة لكم من أموالكم وأولادكم أن تغلبكم فتنتهم، وتصدّكم عن الواجب لله عليكم من الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام؛ فتتركوا الهجرة ما استطعتم؛ بمعنى وأنتم للهجرة مستطيعين. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان عَذَر من لم يقدر على الهجرة بتركها بقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ ـ إلى قوله ـ فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } [النساء:97-99]. فأخبر أنه قد عفا عمن لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً بالإقامة في دار الشرك؛ فكذلك معنى قوله: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم. ومما يدل على صحة هذا أن قوله: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } عقيب قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ }.

ولا خلاف بين السلف من أهل العلم بتأويل القرآن أن هذه الآيات نزلت بسبب قوم كفار تأخّروا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام بتثبيط أولادهم إياهم عن ذلك؛ حسب ما تقدم. وهذا كله اختيار الطَّبَري. وقيل: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } فيما تطّوع به من نافلة أو صدقة؛ فإنه لما نزل قوله تعالى: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } اشتدّ على القوم فقاموا حتى وَرِمت عراقيبهم وتقرّحت جباههم، فأنزل الله تعالى تخفيفاً عنهم: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } فنسخت الأولى؛ قاله ابن جُبَير. قال الماوردي: ويحتمل إن لم يثبت هذا النقل أن المكره على المعصية غير مؤاخذ بها؛ لأنه لا يستطيع اتقاءها.

الثالثة ـ: قوله تعالى: { وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ } أي اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتُنْهَوْن عنه. وقال مقاتل: «اسْمَعُوا» أي اصغوا إلى ما ينزل عليكم من كتاب الله؛ وهو الأصل في السماع. «وأطِيعُوا» لرسوله فيما أمركم أو نهاكم. وقال قتادة: عليهما بويع النبيّ صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة. وقيل: «وَاسْمَعُوا» أي ٱقبلوا ما تسمعون؛ وعبّر عنه بالسماع لأنه فائدته.

قلت: وقد تغلغل في هذه الآية الحجاج حين تلاها وقَصَرها على عبد الملك بن مروان فقال: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ } هي لعبد الملك بن مروان أمين الله وخليفته، ليس فيها مَثْنَوِيّة، والله لو أمرت رجلاً أن يخرج من باب المسجد فخرج من غيره لحلّ لي دمه. وكذب في تأويلها! بلى هي للنبيّ صلى الله عليه وسلم أوّلاً ثم لأولي الأمر من بعده. دليلهُ { { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء:59].

الرابعة ـ: قوله تعالى: { وَأَنْفِقُواْ } قيل: هو الزكاة؛ قاله ابن عباس. وقيل: هو النفقة في النفْل. وقال الضحاك: هو النفقة في الجهاد. وقال الحسن: هو نفقة الرجل لنفسه. قال ابن العربي: وإنما أوقع قائلَ هذا قوله: «لأَنفُسِكُم» وخفِيَ عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة هي نفقة الرجل على نفسه؛ قال الله تعالى: { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء:7]. وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه. والصحيح أنها عامة. "وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: عندي دينار؟ قال:أنفقه على نفسك قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على عيالك قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على ولدك قال: عندي آخر؟ قال: تصدّق به" فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك. وهو الأصل في الشرع.

الخامسة ـ: قوله تعالى: { خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } «خَيْراً» نصب بفعل مضمر عند سيبويه؛ دلّ عليه { وَأَنْفِقُواْ }. كأنه قال: ايتُوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم، أو قدموا خيراً لأنفسكم من أموالكم. وهو عند الكسائي والفَرّاء نعت لمصدر محذوف؛ أي أنفقوا إنفاقاً خيراً لأنفسكم. وهو عند أبي عبيدة خبر كان مضمرة؛ أي يكن خيراً لكم. ومن جعل الخير المال فهو منصوب بـ «أنفقوا».

قوله تعالى: { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } تقدم الكلام فيه. وكذا { إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } تقدم الكلام فيه أيضاً في «البقرة» وسورة «الحديد». { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } تقدم معنى الشكر في «البقرة». والحليم: الذي لا يَعْجَل.