التفاسير

< >
عرض

وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَٱللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً
٤
ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً
٥
-الطلاق

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ }.

فيه سبع مسائل:

الأولى ـ: قوله تعالى: { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ } لما بين أمر الطلاق والرّجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عِدّة ذوات الأقراء، عرفهم في هذه السورة عدّة التي لا ترى الدم. وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدّة النساء في سورة «البقرة» في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال أبَّي بن كعب: يا رسول الله، إن ناساً يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شيء: الصغار وذوات الحمل، فنزلت: { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ } الآية. وقال مقاتَل: لما ذكر قوله تعالى: { { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } } قال خَلاّد بن النعمان: يا رسول الله، فما عِدّة التي لم تَحِض، وعِدّة التي انقطع حَيْضُها، وعدّة الحبلى؟ فنزلت: { وَٱللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ } يعني قَعدن عن المحيض. وقيل: إن معاذ بن جَبل سأل عن عدّة الكبيرة التي يئست؛ فنزلت الآية. والله أعلم. وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تَدري دَمَ حَيْض هو أو دم عِلة.

الثانية ـ: قوله تعالى: { إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } أي شككتم، وقيل تَيَقَّنتم. وهو من الأضداد؛ يكون شكّاً ويقيناً كالظنّ. واختيار الطبري أن يكون المعنى: إن شككتم، فلم تدروا ما الحكم فيهنّ. وقال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها. القشيريّ: وفي هذا نظر؛ لأنّا إذا شككنا هل بلغت سِن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر. والمعتبر في سن اليأس في قول: أقصى عادة امرأة في العالم، وفي قولٍ: غالب نساء عشيرة المرأة. وقال مجاهد: قوله { إِنِ ٱرْتَبْتُمْ } للمخاطبين؛ يعني إن لم تعلموا كم عدّة اليائسة والتي لم تحض فالعِدّة هذه. وقيل: المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كِبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر. وقال عكرمة وقتادة: من الرِّيبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض؛ تحيض في أوّل الشهر مراراً وفي الأشهر مرة. وقيل: إنه متصل بأول السورة. والمعنى: لا تُخرجوهن من بيُوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدّة. وهو أصح ما قيل فيه.

الثالثة ـ: المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرىء نفسها من رِيبتها، ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها؛ منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حَلّت للأزواج. وهذا قاله الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحُرّة المُتَوَفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر أربعة أشهر وعشراً، والأمةُ شهرين وخمس ليال بعد التسعة الأشهر. وروي عن الشافعي أيضاً أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات. وهو قول النَّخَعِي والثَّوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق. فإن كانت المرأة شابة وهي:

المسألة الرابعة ـ: اسْتُؤْني بها هل هي حامل أم لا؛ فإن استبان حملها فإن أجَلها وَضْعه. وإن لم يَسْتَبِن فقال مالك: عِدة التي ارتفع حيضها وهي شابة سَنَةٌ. وبه قال أحمد وإسحاق ورَووْه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأهل العراق يَرَوْن أن عدتها ثلاثُ حِيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغاً تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثةَ أشهر. قال الثعلبيّ: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه. قال الكِيا: وهو الحق؛ لأن الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر؛ والمرتابة ليست آيسة.

الخامسة ـ: وأمّا من تأخّر حَيْضها لمرض؛ فقال مالك وابن القاسم وعبد الله بن أصْبَغ: تعتدّ تسعة أشهر ثم ثلاثة. وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسَّنة. وقد طلّق حَبّان بن مُنقِذ امرأته وهي تُرْضع؛ فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع، ثم مرِض حَبّان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده عليّ وزيد، فقالا: نرى أن تَرِثه؛ لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار؛ فمات حَبّان فورِثته واعتدّت عِدة الوفاة.

السادسة ـ: ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حَيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة؛ على ما ذكرناه. فتحِلّ ما لم تَرْتَب بحَمْل؛ فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، أو خمسة، أو سبعة؛ على اختلاف الروايات عن علمائنا. ومشهورها خمسة أعوام؛ فإن تجاوزتها حَلَّت. وقال أشهب: لا تحلّ أبداً حتى تنقطع عنها الرِّيبة. قال ابن العربي: وهو الصحيح؛ لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك. وقد رُوي عن مالك مثله.

السابعة ـ: وأما التي جُهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتدّ سنة. وهو قول الليث. قال الليث: عِدّة المطلّقة وعدّة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سَنةٌ. وهو مشهور قول علمائنا؛ سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وَميّزت ذلك أو لم تميّزه، عدّتها في ذلك كلّه عند مالك في تحصيل مذهبه سنَة؛ منها تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدّة. وقال الشافعي في أحد أقواله: عدّتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويّين. ابن العربيّ: وهو الصحيح عندي. وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلِمت إقبال حيضتها أو إدبارها اعتدّت ثلاثة قُرُوء. وهذا أصحّ في النظر، وأثبت في القياس والأثر.

قوله تعالى: { وَٱللاَّتِي لَمْ يَحِضْنَ } ـ يعني الصغيرة ـ فعدّتهن ثلاثة أشهر؛ فأضمر الخبر. وإنما كانت عدّتها بالأشهر لعدم الأقراء فيها عادة، والأحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات؛ فهي تعتدّ بالأشهر. فإذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء انتقلت إلى الدم لوجود الأصل، وإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم؛ كما أن المُسِنّة إذا اعتدّت بالدم ثم ارتفع عادت إلى الأشهر. وهذا إجماع.

قوله تعالى: { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } فيه مسألتان:

الأولى ـ: قوله تعالى: { وَأُوْلاَتُ ٱلأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } وَضْعُ الحمل، وإن كان ظاهراً في المطلقة لأنه عليها عُطف وإليها رجع عقب الكلام؛ فإنه في المتوفَّى عنها زوجها كذلك؛ لعموم الآية وحديث سُبَيْعة. وقد مضى في «البقرة» القول فيه مستوفى.

الثانية ـ: إذا وضعت المرأة ما وضعت من عَلَقة أو مُضْغَة حَلّت. وقال الشافعيّ وأبو حنيفة: لا تحلُّ إلا بما يكون ولدا. وقد مضى القول فيه في سورة «البقرة» وسورة «الرعد» والحمد لله.

قوله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } قال الضحاك؛ أي من يَتّقه في طلاق السُّنة يجعل له من أمره يسراً في الرجعة. مقاتل: ومن يَتّق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يُسْراً في توفيقه للطاعة. { ذَلِكَ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي الذي ذُكر من الأحكام أمْرُ الله أنزله إليكم وبَيَّنه لكم. { وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ } أي يعمل بطاعته. { يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة. { وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } أي في الآخرة.