التفاسير

< >
عرض

نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ
١
مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
٢
وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ
٣
-القلم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { نۤ وَٱلْقَلَمِ }

أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضَّل وهُبَيرة ووَرْش وابن مُحَيْصِن وابن عامر والكسائي ويعقوب. والباقون بالإِظهار. وقرأ عيسى بن عمر بفتحها؛ كأنه أضمر فعلاً. وقرأ ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف القسم. وقرأ هارون ومحمد ابن السَّمَيْقَع بضمها على البناء. واختلِف في تأويله. فَرَوى معاوية بن قُرّة عن أبيه يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نَ لَوْح من نور». ورَوَى ثابت البُنَانيّ أن «ن» الدواة. وقاله الحسن وقتادة. وروى الوليد بن مسلم قال: حدّثنا مالك بن أنس عن سُمَيٌّ مولى أبي بكر عن أبي صالح السّمان عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول ما خلق الله القلم ثم خلق النُّون وهي الدواة وذلك قوله تعالى: { نۤ وَٱلْقَلَمِ } ثم قال له ٱكتب قال وما أكتب قال ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثَر فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ـ قال ـ ثم خُتم فَمُ القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة. ثم خلق العقل فقال الجبّار ما خَلقتُ خلقاً أعجب إليّ منك وعِزّتيّ وجلالي لأَكَمِّلّنك فيمن أحببت ولأنقصنّك فيمن أبغضت" قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل الناس عقلاً أطوعهم لله وأعملهم بطاعته" . وعن مجاهد قال: «نۤ» الحوت الذي تحت الأرض السابعة. قال: { وَٱلْقَلَمِ } الذي كُتب به الذِّكر. وكذا قال مقاتل ومُرّة الْهَمْدانيّ وعطاء الخراساني والسُّدّي والكَلْبي: إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون. وروى أبو ظَبيان عن ابن عباس قال: أوّل ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الأرض. ثم قرأ ابن عباس { نۤ وَٱلْقَلَمِ } الآية. وقال الكَلْبي ومقاتل: ٱسمه البَهْمُوت. قال الراجز:

مالي أراكم كلّكم سكوتَاوالله رَبِّي خلق الْبَهْمُوتَا

وقال أبو اليقظان والواقدي: ليوثاً. وقال كعب: لوثوثاً. وقال: بلهموثاً. قال كعب: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع؛ فهمّ ليوثا أن يفعل ذلك، فبعث الله إليه دابّة فدخلت مَنخْره ووصلت إلى دماغه، فضجّ الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت. قال كعب: فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه إن همّ بشيء من ذلك عادت كما كانت. وقال الضحاك عن ابن عباس: إن «نۤ» آخر حرف من حروف الرحمن. قال: الر، وحم، ون؛ الرحمن تعالى متقطعة. وقال ٱبن زيد: هو قسم أقسم الله تعالى به. وقال ٱبن كَيْسان: هو فاتحة السورة. وقيل: ٱسم السورة. وقال عطاء وأبو العالية: هو افتتاح ٱسمه نصير ونور وناصر. وقال محمد بن كعب: أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين؛ وهو حقّ. بيانه قوله تعالى: { { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ } [الروم:47]. وقال جعفر الصادق: هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون. وقيل: هو المعروف من حروف المعجم، لأنه لو كان غير ذلك لكان مُعْرَباً؛ وهو ٱختيار القُشَيْريّ أبو نصر عبد الرحيم في تفسيره. قال: لأن «نۤ» حرف لم يُعْرَب، فلو كان كلمة تامة أعرِب كما أعرب القلم، فهو إذاً حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور. وعلى هذا قيل: هو اسم السورة، أي هذه سورة «ن». ثم قال: «وَالْقَلَمِ» أقسم بالقلم لما فيه من البيان كاللسان؛ وهو واقع على كل قلم مما يَكتب به مَن في السماء ومَن في الأرض؛ ومنه قول أبي الفتح البُسْتيّ:

إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهموعَدُّوه مما يكسِبُ المجدَ والكَرَمْ
كَفَى قلم الكُتَّابِ عزًّا ورفعةًمَدَى الدهرِ أن الله أقسم بالقلْم

وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة؛ ما ذكرناه أعلاها. وقال ابن عباس: هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله؛ فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. قال: وهو قلم من نورٍ طوله كما بين السماء والأرض. ويقال. خلق الله القلم ثم نظر إليه فٱنشق نصفين؛ فقال: ٱجرِ؛ فقال: يا ربّ بِمَ أجري؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة؛ فجرى على اللوح المحفوظ. وقال الوليد بن عُبادة بن الصامت: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بُنَيّ، اتق الله، وٱعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده، والقدر خيره وشرّه، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أوّل ما خلق الله القلم فقال له اكتب فقال يا رب وما أكتب فقال اكتب القدر فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد" وقال ٱبن عباس: أوّل ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن؛ فكتب فيما كتب { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ }. وقال قتادة: القلم نعمة من الله تعالى على عباده. قال غيره: فخلق الله القلم الأوّل فكتب ما يكون في الذكر ووضعه عنده فوق عرشه، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض؛ على ما يأتي بيانه في سورة { { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ } .[العلق:1]

قوله تعالى: { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي وما يكتبون. يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم؛ قاله ابن عباس: وقيل: وما يكتبون (أي) الناس ويتفاهمون به. وقال ٱبن عباس: ومعنى «وَمَا يَسطُرونَ» وما يعلمون. و «ما» موصولة أو مصدرية؛ أي ومسطوراتهم أو وسطرهم، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة؛ على الخلاف. { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } هذا جواب القسم وهو نفي؛ وكان المشركون يقولون للنبيّ صلى الله عليه وسلم إنه مجنون، به شيطان. وهو قولهم: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر:6] فأنزل الله تعالى ردّاً عليهم وتكذيباً لقولهم { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } أي برحمة ربك. والنعمة ههنا الرحمة. ويحتمل ثانياً ـ أن النعمة ههنا قَسَم؛ وتقديره: ما أنت ونعمةِ ربك بمجنون؛ لأن الواو والباء من حروف القسم. وقيل هو كما تقول: ما أنت بمجنون، والحمد لله. وقيل: معناه ما أنت بمجنون، والنعمة لربك؛ كقولهم: سبحانك اللهم وبحمدك؛ أي والحمد لله. ومنه قول لبِيد:

وأفردْتُ في الدنيا بفقد عشيرتيوفارقني جارٌ بأرْبَدَ نافِعُ

أي وهو أربد. وقال النابغة:

لم يُحْرَمُوا حُسْنَ الغِذاء وأمُّهمطَفَحتْ عليك بناتق مِذْكارِ

أي هو ناتق. والباء في { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } متعلقة { بِمَجْنُونٍ } منفيًّا؛ كما يتعلق بغافل مثبتاً. كما في قولك: أنت بنعمة ربك غافل. ومحله النصب على الحال؛ كأنه قال: ما أنت بمجنون مُنْعَماً عليك بذلك. { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً } أي ثواباً على ما تحملت من أثقال النبوّة. { غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي غير مقطوع ولا منقوص؛ يقال: مننت الحبل إذا قطعته. وحبل منين إذا كان غير متين. قال الشاعر:

غُبْساً كواسِبَ لا يُمَنّ طعامُها

أي لا يقطع. وقال مجاهد: { غَيْرَ مَمْنُونٍ } محسوب. الحسن: { غَيْرَ مَمْنُونٍ } غير مكدّر بالمَنّ. الضحاك: أجراً بغير عمل. وقيل: غير مقدر وهو التفضل؛ لأن الجزاء مقدّر والتفضل غير مقدر؛ ذكره الماوَرْدِيّ، وهو معنى قول مجاهد.