التفاسير

< >
عرض

وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ
٥١
-القلم

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } «إنْ» هي المخففة من الثقيلة. { لَيُزْلِقُونَكَ } أي يعتانونك. { بِأَبْصَارِهِمْ } أخبر بشدّة عداوتهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأرادوا أن يصيبوه بالعين فنظر إليه قوم من قريش وقالوا: ما رأينا مثله ولا مثل حُجَجِه. وقيل: كانت العين في بني أسد، حتى إن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمرّ بأحدهم فيعاينها ثم يقول: يا جارية، خذي المِكَلّ والدرهم فأتينا بلحم هذه الناقة، فما تبرح حتى تقع للموت فُتنْحر. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة، ثم يرفع جانب الخِباء فتمرّ به الإبل أو الغنم فيقول: لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه! فما تذهب إلا قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة. فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعين فأجابهم؛ فلما مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أنشد:

قد كان قومك يحسبونك سيّداًوإخال أنك سيّدٌ مَعْيُونُ

فعصَم الله نبيّه صلى الله عليه وسلم ونزلت: { وَإِن يَكَادُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ }. وذكر نحوه الماوردي. وأن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً ـ يعني في نفسه وماله ـ تجوّع ثلاثة أيام، ثم يتعرض لنفسه وماله فيقول: تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر منه ولا أحسن؛ فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال القُشَيْرِي: وفي هذا نظر؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض؛ ولهذا قال: { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } أي ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن.

قلت: أقوال المفسرين واللغَوِيّين تدلّ على ما ذكرنا، وأن مرادهم بالنظر إليه قَتْلُه. ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك. وقرأ ابن عباس وابن مسعود والأعمش وأبو وائل ومجاهد «ليزهقونك» أي ليهلكونك. وهذه قراءة على التفسير؛ من زهقت نفسه وأزهقها. وقرأ أهل المدينة «لَيَزْلِقُونَكَ» بفتح الياء. وضمها الباقون؛ وهما لغتان بمعنىً؛ يقال: زَلَقه يَزْلِقه وأزلقه يُزلقه إزلاقاً إذا نَحّاه وأبعده. وزَلَق رأسه يَزْلِقه زلقاً إذا حلقه. وكذلك أزلْقَه وزَلَّقه تزليقاً. ورجل زَلِق وزُمَلِق ـ مثال هُدَبِد ـ وزَمَالق وزُمّلِق ـ بتشديد الميم ـ وهو الذي يُنزِل قبل أن يجامع؛ حكاه الجوهري وغيره. فمعنى الكلمة إذاً التنحية والإزالة؛ وذلك لا يكون في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته. قال الهَرَوِيّ: أراد لَيعتانونك بعيونهم فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوةً لك. وقال ٱبن عباس: ينفذونك بأبصارِهم؛ يقال: زَلَق السهمُ وزَهَق إذا نفذ؛ وهو قول مجاهد. أي يَنْفذونك من شدّة نظرهم. وقال الكلبي: يَصْرَعونك. وعنه أيضاً والسُّدِّي وسعيد ابن جُبَير: يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة. وقال العَوْفِيّ: يَرْمُونك. وقال المُؤَرِّج: يُزيلونك. وقال النَّضْر بن شُميل والأخفش: يفتنونك. وقال عبد العزيز بن يحيـى: ينظرون إليك نظراً شزْراً بتحديق شديد. وقال ابن زيد: لَيَمَسُّونك. وقال جعفر الصادق: ليأكلونك. وقال الحسن وابن كَيْسان: ليقتلونك. وهذا كما يقال: صرعني بطرفه، وقتلني بعينه. قال الشاعر:

ترميك مَزْلَقَةُ العيون بطرفهاوتَكِلُّ عنك نصالُ نَبْلِ الرامي

وقال آخر:

يتقارضون إذا ٱلتقَوْا في مجلسنَظَراً يُزل مواطىء الأقدام

وقيل: المعنى أنهم ينظرون إليك بالعداوة حتى كادوا يسقطونك. وهذا كله راجع إلى ما ذكرنا، وأن المعنى الجامع: يصيبونك بالعين. والله أعلم.