التفاسير

< >
عرض

أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
١٨٥
-الأعراف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } فيه أربع مسائل:

الأُولى ـ قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ } عجب من إعراضهم عن النظر في آياته؛ ليعرفوا كمال قدرته، حسب ما بيناه في سورة «البقرة». والملكوت من أبنية المبالغة، ومعناه الملك العظيم. وقد تقدّم.

الثانية ـ استدل بهذه الآية ـ وما كان مثلها من قوله تعالى: { قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } وقولِهِ تعالى: { { أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا } [قۤ: 6] وقولهِ: { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } [الغاشية: 17] الآية. وقولهِ: { { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21] ـ من قال بوجوب النظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته. قالوا: وقد ذم الله تعالى من لم ينظر، وسلبهم الانتفاع بحواسهم فقال: { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } الآية.

وقد اختلف العلماء في أوّل الواجبات، هل هو النظر والاستدلال، أو الإيمان الذي هو التصديق الحاصل في القلب الذي ليس من شرط صحته المعرفة. فذهب القاضي وغيره إلى أن أوّل الواجبات النظر والاستدلال؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يعلم ضرورة، وإنما يعلم بالنظر والاستدلال بالأدلة التي نصبها لمعرفته. وإلى هذا ذهب البخارِيّرحمه الله حيث بوّب في كتابه (باب العلم قبل القول والعمل لقول الله عز وجل: { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلأ ٱللَّهُ } ) [محمد: 19]. قال القاضي: من لم يكن عالماً بالله فهو جاهل، والجاهل به كافر. قال ابن رشد في مقدماته: وليس هذا بالبيّن؛ لأن الإيمان يصح باليقين الذي قد يحصل لمن هداه الله بالتقليد، وبأوّل وهلة من الاعتبار بما أرشد الله إلى الاعتبار به في غير ما آية. قال: وقد استدل الباجِيّ على من قال إن النظر والاستدلال أوّل الواجبات بإجماع المسلمين في جميع الأعصار على تسمية العامة والمقلِّد مؤمنين. قال: فلو كان ما ذهبوا إليه صحيحاً لما صح أن يسمى مؤمناً إلا من عنده علم بالنظر والاستدلال. قال: وأيضاً فلو كان الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال لجاز للكفار إذا غلب عليهم المسلمون أن يقولوا لهم: لا يحل لكم قتلنا؛ لأن من دينكم أن الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال فأخرونا حتى ننظر ونستدل. قال: وهذا يؤدّي إلى تركهم على كفرهم، وألا يقتلوا حتى ينظروا ويستدِلوا.

قلت: هذا هو الصحيح في الباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إلۤه إلاَّ الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" . وترجم ابن المنذر في كتاب الأشراف (ذكر صفة كمال الإيمان) أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إلۤه إلاَّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام ـ وهو بالغ صحيح العقل ـ أنه مسلم. وإن رجع بعد ذلك وأظهر الكفر كان مرتداً يجب عليه ما يجب على المرتدّ. وقال أبو حفص الزنجانيّ وكان شيخنا القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السِّمنانيّ يقول: أوّل الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به، ثم النظر والاستدلال المؤدّيان إلى معرفة الله تعالى؛ فيتقدم وجوب الإيمان بالله تعالى عنده على المعرفة بالله. قال: وهذا أقرب إلى الصواب وأرفق بالخلق؛ لأن أكثرهم لا يعرفون حقيقة المعرفة والنظر والاستدلال. فلو قلنا: إن أوّل الواجبات المعرفة بالله لأدّى إلى تكفير الجمّ الغفير والعدد الكثير، وألا يدخل الجنة إلا آحاد الناس، وذلك بعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قطع بأن أكثر أهل الجنة أُمّته، وأن أُمم الأنبياء كلهم صف واحد وأُمته ثمانون صفا. وهذا بيّن لا إشكال فيه. والحمد لله.

الثالثة ـ ذهب بعض المتأخرين والمتقدّمين من المتكلمين إلى أن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرقوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه وهو كافر؛ فيلزم على هذا تكفير أكثر المسلمين، وأوّل من يبدأ بتكفيره آباؤه وأسلافه وجيرانه. وقد أورد على بعضهم هذا فقال: لا تشنّع عليّ بكثرة أهل النار. أو كما قال ـ

قلت: وهذا القول لا يصدر إلا من جاهل بكتاب الله وسنة نبيه؛ لأنه ضيق رحمة الله الواسعة على شِرذِمة يسيرة من المتكلمين، واقتحموا في تكفير عامّة المسلمين. أين هذا من "قول الأعرابي الذي كشف عن فرجه ليبول، وٱنتهره أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: اللهم ٱرحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد حجرت واسعاً" . خرّجه البخاريّ والترمذيّ وغيرهما من الأئمة. أترى هذا الأعرابيّ عرف الله بالدليل والبرهان والحجة والبيان؟ وأن رحمته وسعت كل شيء، وكم من مثله محكوم له بالإيمان. بل اكتفى صلى الله عليه وسلم من كثير ممن أسلم بالنطق بالشهادتين، وحتى إنه اكتفى بالإشارة في ذلك. ألا تراه لما " قال للسوداء: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة" . ولم يكن هناك نظر ولا استدلال، بل حكم بإيمانهم من أوّل وهلة، وإن كان هناك عن النظر والمعرفة غفلة. والله أعلم.

الرابعة ـ ولا يكون النظر أيضاً والاعتبار في الوجوه الحِسان من المُرد والنِّسوان. قال أبو الفرج الجوزِي: قال أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبرِيّ بلغني عن هذه الطائفة التي تسمع السماع أنها تضيف إليه النظر إلى وجه الأمرد، وربما زينته بالحلى والمصبغات من الثياب، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار والاستدلال بالصنعة على الصانع. وهذه النهاية في متابعة الهوى ومخادعة العقل ومخالفة العلم. قال أبو الفرج: وقال الإمام أبو الوفاء بن عقيل لم يُحِلّ الله النظر إلا على صورةٍ لا ميل للنفس إليها، ولا حظ للهوى فيها؛ بل عبرة لا يمازجها شهوة، ولا يقارنها لذّة. ولذلك ما بعث الله سبحانه ٱمرأة بالرسالة، ولا جعلها قاضياً ولا إماماً ولا مؤذناً؛ كل ذلك لأنها محل شهوة وفتنة. فمن قال: أنا أجد من الصور المستحسنة عبراً كذّبناه. وكل من ميّز نفسه بطبيعة تخرجه عن طباعنا كذبناه، وإنما هذه خُدَع الشيطان للمدّعين. وقال بعض الحكماء: كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير، ولذلك قال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 4] وقال: { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21]. وقد بينا وجه التمثيل في أوّل «الأنعام». فعلى العاقل أن ينظر إلى نفسه ويتفكر في خلقه من حين كونه ماء دافقاً إلى كونه خلقاً سَوِيّاً، يُعان بالأغذية ويُرَبَّى بالرّفق، ويُحفظ باللّين حتى يكتسب القُوَى ويبلغ الأشدّ. وإذا هو قد قال: أنا، وأنا، ونسي حين أتى عليه حِين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، وسيعود مقبوراً؛ فياويحه إن كان محسوراً. قال الله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ـ إلى قوله ـ تُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 12 - 16] فينظر أنه عبد مربوب مكلف، مخوّف بالعذاب إن قصر، مرتجياً بالثواب إن ٱئتمَر، فيقبِل على عبادة مولاه فإنه وإن كان لا يراه يراه و لا يخشى الناس والله أحق أن يخشاه، ولا يتكبر على أحد من عباد الله؛ فإنه مؤلف من أقذار، مشحون من أوضار، صائر إلى جنة إن أطاع أو إلى نار. وقال ابن العربيّ: وكان شيوخنا يستحبون أن ينظر المرء في الأبيات الحكمية التي جمعت هذه الأوصاف العلمية:

كيف يَزْهُو مَن رجِيعُهأبدَ الدهر ضجيعُه
فهو منه وإليهوأخوه ورضيعُه
وهو يدعوه إلى الحشِّـىبصُغْر فيطيعُه

قوله تعالى: { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } معطوف على ما قبله؛ أي وفيما خلق الله من الأشياء. { وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } أي وفي آجالهم التي عسى أن تكون قد قربت؛ فهو في موضع خفض معطوف على ما قبله. وقال ابن عباس: أراد بٱقتراب الأجل يوم بَدْر ويوم أُحُد. { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } أي بأيّ قرآن غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يصدقون. وقيل: الهاء للأجل، على معنى بأيّ حديث بعد الأجل يؤمنون حين لا ينفع الإيمان؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف.