التفاسير

< >
عرض

وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٨
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ
٩
-الأعراف

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالىٰ: { وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ } ابتداء وخبر. ويجوز أن يكون { ٱلْحَقِّ } نعته، والخبر { يَوْمَئِذٍ }. ويجوز نصب { ٱلْحَقِّ } على المصدر. والمراد بالوزن وزن أعمال العباد بالميزان. قال ابن عمر: توزن صحائف أعمال العباد. وهذا هو الصحيح، وهو الذي ورد به الخبر على ما يأتي. وقيل: الميزان الكتاب الذي فيه أعمال الخلق. وقال مجاهد: الميزان الحسنات والسيئات بأعيانها. وعنه أيضاً والضحاكِ والأعمش: الوزن والميزان بمعنى العدل والقضاء، وذِكر الوزن ضربُ مثلٍ؛ كما تقول: هذا الكلام في وزن هذا وفي وزانه، أي يعادله ويساويه وإن لم يكن هناك وَزْنٌ. قال الزجاج: هذا سائغٌ من جهة اللسان، والأولى أن يتبع ما جاء في الأسانيد الصحاح من ذكر الميزان. قال القشيرِيّ: وقد أحسن فيما قال، إذ لو حمل الميزان على هذا فليحمل الصراط على الدِّين الحق، والجنة والنار على ما يرد على الأرواح دون الأجساد، والشياطينُ والجنّ على الأخلاق المذمومة، والملائكة على القوى المحمودة. وقد أجمعت الأُمة في الصدر الأوّل على الأخذ بهذه الظواهر من غير تأويل. وإذا أجمعوا على منع التأويل وجب الأخذ بالظاهر، وصارت هذه الظواهر نصوصاً. قال ابن فُورَك: وقَدْ أنكرت المعتزلة الميزان بناءً منهم على أن الأعراض يستحيل وزنها، إذ لا تقوم بأنفسها. ومن المتكلِّمين من يقول: إن الله تعالىٰ يقلِب الأعراض أجساماً فيزنها يوم القيامة. وهذا ليس بصحيح عندنا، والصحيح أن الموازين تثقل بالكتب التي فيها الأعمال مكتوبة، وبها تخف. وقد روي في الخبر ما يحقِّق ذلك، وهو أنه روي: "أن ميزان بعضِ بني آدم كاد يخف بالحسنات فيوضع فيه رِق مكتوب فيه لا إله إلاَّ الله فيثقل" . فقد عُلِمَ أن ذلك يرجع إلى وزن ما كتب فيه الأعمال لا نفس الأعمال، وأن الله سبحانه يخفف الميزان إذا أراد، ويثقله إذا أراد بما يُوضع في كِفتيه من الصحف التي فيها الأعمال. وفي صحيح مسلم عن صَفْوان بن مُحْرِز قال قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النَّجْوى؟ قال سمعته يقول: "يُدْنَى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه فيُقَرِّره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول أي ربِّ أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم فيُعْطَى صحيفة حسناته وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله" . فقوله: "فيعطى صحيفة حسناته" دليل على أن الأعمال تكتب في الصحف وتوزن. وروى ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُصاح برجل من أُمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق فينشر عليه تسعة وتسعون سِجِلاًّ كل سِجِل مدّ البصر ثم يقول الله تبارك وتعالىٰ هل تنكر من هذا شيئاً فيقول لا يا ربّ فيقول أظَلَمْتك كَتَبتِي الحافظون فيقول لا ثم يقول ألك عذر ألك حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقول بلى إن لك عندنا حسنات وإنه لا ظلم عليك اليوم فتُخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البِطاقة مع هذه السِّجِلاّت فيقول إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كِفة والبطاقة في كِفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة" . زاد الترمذيّ "فلا يثقل مع اسم الله شيء" وقال: حديث حسن غريب. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في «الكهف والأنبياء» إن شاء الله تعالىٰ.

قوله تعالىٰ: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } «مَوَازِينُهُ» جمع ميزان، وأصله مِوزان، قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وقيل: يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد يوزن بكل ميزان منها صِنف من أعماله. ويمكن أن يكون ذلك ميزاناً واحداً عُبِّرَ عنه بلفظ الجمع؛ كما تقول: خرج فلان إلى مكة على البغال، وخرج إلى البصرة في السفن. وفي التنزيل: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ }. { كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الشعراء: 123]. وإنما هو رسول واحد في أحد التأويلين. وقيل: الموازين جمع موزون، لا جمع ميزان. أراد بالموازين الأعمال الموزونة. { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } مثله. وقال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكِفّتان؛ فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان فتثقل حسناته على سيئاته؛ فذلك قوله: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ويؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة فيوضع في كِفّة الميزان فيخف وزنه حتى يقع في النار. وما أشار إليه ابن عباس قريب مما قيل: يخلق الله تعالىٰ كل جزء من أعمال العباد جوهراً فيقع الوزن على تلك الجواهر. وردّه ٱبن فُورك وغيره. وفي الخبر: "إذا خفت حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بِطاقة كالأنملة فيلقيها في كِفّة الميزان اليمنَى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبيّ صلى الله عليه وسلم بأبِي أنت وأُميّ! ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت؟ فيقول أنا محمد نبيك وهذه صلواتك التي كنت تُصلّي عليّ قد وفيتك أحوج ما تكون إليها" . ذكره القشيرِيّ في تفسيره. وذكر أن البطاقة (بكسر الباء) رُقعة فيها رقم المتاع بلغة أهل مصر. وقال ابن ماجه: قال محمد بن يحيى: البِطاقة الرُّقعة، وأهل مصر يقولون للرُّقْعة بِطاقة. وقال حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السَّلام، يقول الله تعالىٰ: "يا جبريل زِنْ بينهم فرُدّ من بعض على بعض" . قال: وليس ثمّ ذهب ولا فضة؛ فإن كان للظالم حسناتٌ أخِذ من حسناته فردّ على المظلوم، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتحمل على الظالم؛ فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال. وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أن الله تعالىٰ يقول يوم القيامة يا آدم ٱبرز إلى جانب الكرسي عند الميزان وٱنظر ما يرفع إليك من أعمال بَنِيك فمن رجح خيرُه على شره مثقالَ حَبّة فله الجنة ومن رجح شره على خيره مثقال حبة فله النار حتى تعلم أني لا أَعذب إلاَّ ظالماً" .