التفاسير

< >
عرض

وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً
١٦
لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً
١٧
-الجن

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } هذا من قول الله تعالى. أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسّعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق. وهذا محمول على الوحي؛ أي أوحى إليّ أن لو ٱستقاموا. ذكر ٱبن بحر: كل ما في هذه السورة من «إن» المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجِن الذين ٱستمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ٱبن الأنباري: ومن كسر الحروف وفتح «وَأَنْ لَوِ ٱسْتَقَامُوا» أضمر يميناً تامًّا، تأويلها: والله أن لو ٱستقاموا على الطريقة؛ كما يقال في الكلام: والله أَنْ قمتَ لقمتُ، ووالله لو قمتَ قمتُ؛ قال الشاعر:

أَما واللَّهِ أن لو كُنتَ حُرًّاوما بِالحُرّ أنتَ ولا العتِيقِ

ومن فتح ما قبل المخففة نسَقها ـ أعنى الخفيفة ـ على «أَوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ»، «وَأَنْ لَوِ ٱسْتَقَامُوا» أو على «آمَنَّا بِهِ» وبأن لو ٱستقاموا. ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى «أن» المخففة، أن يعطف المخففة على «أَوحِيَ إِلَيَّ» أو على «آمَنَّا بِهِ»، ويستغني عن إضمار اليمين. وقراءة العامة بكسر الواو من «لوِ» لالتقاء الساكنين. وقرأ ٱبن وثّاب والأعمش بضم الواو. و{ مَّآءً غَدَقاً } أي واسِعاً كثيراً، وكانوا قد حُبِس عنهم المطر سبع سنين؛ يقال: غَدِقَتِ العينُ تَغدَق، فهي غَدِقة، إذا كثر ماؤها. وقيل: المراد الخلق كلُّهم أي { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } طريق الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين { لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } أي كثيراً { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم. وقال عمر في هذه الآية: أينما كان الماء كان المال، وأينما كان المال كانت الفتنة. فمعنى «لأَسْقَيْنَاهُمْ» لوسَّعنا عليهم في الدنيا؛ وضرَبَ الماء الغَدَق الكثير لذلك مثلاً؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون، فأقيم مقامه؛ كقوله تعالى: { { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 96] وقوله تعالى: { { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [المائدة: 66] أي بالمطر. والله أعلم. وقال سعيد بن المسيّب وعطاء بن أبي رَبَاح والضحاك وقَتادة ومقاتل وعطية وعُبيد بن عمير والحسن: كان والله أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشيّ ففُتنوا بها، فوثبوا على إمامهم فقتلوه. يعني عثمان بن عفّان. وقال الكلبيّ وغيره: «وَأَنَّ لَوِ ٱسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيَقَةِ» التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفاراً لوسّعنا أرزاقهم مكراً بهم وٱستدراجاً لهم، حتى يَفتتنوا بها، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة. وهذا قول قاله الربيع ٱبن أنس وزيد بن أسلم وٱبنه والكلبيّ والثّمالي ويَمَان بن رَباب وٱبن كيسان وأبو مِجْلَز؛ وٱستدلّوا بقوله تعالى: { { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 44] الآية. وقوله تعالى: { { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [الزخرف: 33] الآية؛ والأوّل أشبه؛ لأن الطريقة معرّفة بالألف واللام، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى؛ ولأن الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخُدريّ رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أخْوف ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من زَهْرة الدنيا قالوا: وما زهرة الدنيا؟ قال: بركات الأرض.." وذكر الحديث. وقال عليه السلام: "فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تُبسط عليكم الدنيا (كما بُسطت على مَن قبلكم) فتنافسوها كما تنافسوها فتهلكَكم كما أهلكتهم" .

قوله تعالى: { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } يعني القرآن؛ قاله ٱبن زيد. وفي إعراضه عنه وجهان: أحدهما عن القبول، إن قيل إنها في أهل الكفر. الثاني عن العمل، إن قيل إنها في المؤمنين. وقيل: «وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ» أي لم يشكر نعمه { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } قرأ الكوفيون وعيّاش عن أبي عمرو «يَسْلُكْهُ» بالياء وٱختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لذكر ٱسم الله أوّلا فقال: « وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ». الباقون «نَسْلُكْهُ» بالنون. وروى عن مسلم بن جُندب ضم النون وكسر اللام. وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان، سلكه وأسلكه بمعنًى؛ أي ندخله. { عَذَاباً صَعَداً } أي شاقًّا شديداً. قال ٱبن عباس: هو جبل في جهنم. الخدري، كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ٱبن عباس: أن المعنى مشقة من العذاب. وذلك معلوم في اللغة أن الصَّعَد: المشقة، تقول: تصَعَّدني الأمر: إذا شقّ عليك؛ ومنه قول عمر: ما تَصعَّدني شيء ما تَصعدتني خُطبة النكاح، أي ما شقّ عليّ. وعذاب صَعَدٌ أي شديد. والصَّعَد: مصدر صَعِد؛ يقال: صَعِدَ صَعَداً وصُعوداً، فوصف به العذاب؛ لأنه يتصعد المعذّب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقال أبو عبيدة: الصَّعَد مصدر؛ أي عذاباً ذا صَعَدٍ، والمشي في الصَّعود يشقّ. والصَّعود. العقبة الكئود. وقال عكرمة: هو صخرة ملساء في جهنم يُكلَّف صعودها؛ فإذا ٱنتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم. وقال الكلبيّ: يكلّف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرة ملساء، يُجذب من أمامه بسلاسل، ويُضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها، ولا يبلغ في أربعين سنة. فإذا بلغ أعلاها أُحْدِر إلى أسفلها، ثم يكلّف أيضاً صعودَها، فذلك دأبه أبداً، وهو قوله تعالى: { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً }.