التفاسير

< >
عرض

وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً
١٨
-الجن

الجامع لاحكام القرآن

فيه ست مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } «أَنَّ» بالفتح، قيل: هو مردود إلى قوله تعالى: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ } أي قل أوحَى إلى أن المساجد لله. وقال الخليل: أي ولأن المساجد لله. والمراد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة. وقال سعيد بن جبير: قالت الجنّ كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناءون عنك؟ فنزلت: { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } أي بُنيت لذكر الله وطاعته. وقال الحسن: أراد بها كل البقاع؛ لأن الأرض كلها مسجد للنبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول: "أينما كنتم فصلّوا" "فأينما صليتم فهو مسجد" وفي الصحيح: "وجعلت ليَ الأرض مسجداً وطَهوراً" . وقال سعيد بن المسيّب وطَلْق ٱبن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد، وهي القدمان والركبتان واليدان والوجه؛ يقول: هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد لغيره بها، فتجحد نعمة الله. قال عطاء: مساجدك: أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها. وفي الصحيح عن ٱبن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظُم: الجبهة ـ وأشار بيده إلى أنفه ـ واليدين والركبتين وأطراف القدمين" . وقال العباس قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب" . وقيل: المساجد هي الصلوات؛ أي لأن السجود لله. قاله الحسن أيضاً. فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجِد بكسر الجيم، ويقال بالفتح؛ حكاه الفراء. وإن جعلتها الأعضاء لواحدها مَسجَد بفتح الجيم. وقيل: هو جمع مَسجَد وهو السجود، ويقال: سجدت سجوداً ومَسجَداً، كما تقول: ضربت في الأرض ضَرْباً ومَضرَباً بالفتح: إذا سرت في ٱبتغاء الرزق. وقال ابن عباس: المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسمّيت مكة المساجد؛ لأن كل أحد يسجد إليها. والقول الأوّل أظهر هذه الأقوال إن شاء الله، وهو مروي عن ٱبن عباسرحمه الله .

الثانية: قوله تعالى: { لِلَّهِ } إضافة تشريف وتكريم، ثم خصّ بالذكر منها البيت العتيق فقال: { { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } [الحج: 26]. وقال عليه السلام: "لا تُعمَل المَطِيّ إلا إلى ثلاثة مساجد" الحديث خرجه الأئمة. وقد مضى الكلام فيه. وقال عليه السلام: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" قال ٱبن العربي: وقد روى من طريق لا بأس بها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا" ولو صح هذا لكان نَصّاً.

قلت: هو صحيح بنقل العدل عن العدل حَسْب ما بيناه في سورة «إبراهيم».

الثالثة: المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنها قد تنسب إلى غيره تعريفاً؛ فيقال: مسجد فلان. وفي صحيح الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سابقَ بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأَمدُها ثَنيّة الوَدَاع، وسابق بين الخيل التي لم تضمّر من الثنيّة إلى مسجد بني زُريق. وتكون هذه بالإضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم، وقد تكون بتحبيسهم، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن ٱختلفوا في تحبيس غير ذلك.

الرابعة: مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال. ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل. ويجوز حبس الغريم فيها، وربط الأسير والنوم فيها، وسكنى المريض فيها وفتح الباب للجار إليها، وإنشاد الشعر فيها إذا عرِي عن الباطل. وقد مضى هذا كله مبيناً في سورة «براءة». و«النور» وغيرهما.

الخامسة قوله تعالى: { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام. وقال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبَيعهم أشركوا بالله، فأمر الله نبيّه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها. يقول: فلا تشركوا فيها صنماً وغيره مما يعبد. وقيل: المعنى أفرِدوا المساجد لذكر الله، ولا تتخذوها هزواً وَمتّجراً ومجلساً، ولا طرقاً، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيباً. وفي الصحيح: "من نَشَد ضالّة في المسجد فقولوا لا ردّها الله عليك فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا" وقد مضى في سورة «النور» ما فيه كفاية من أحكام المساجد والحمد لله.

السادسة: روَى الضحاك عن ٱبن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى. وقال: { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مَزور حقّ وأنت خير مَزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى؛ وقال: اللهم صُبَّ عليَّ الخير صبًّا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبداً ولا تجعل معيشتي كَدًّا، وٱجعل لي في الأرض جَدًّا" أي غِنًى.