التفاسير

< >
عرض

عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً
٢٦
إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً
٢٧
-الجن

الجامع لاحكام القرآن

فيه مسألتان:

الأولى: قوله تعالى: { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ } «عَالِمُ» رفعا نعتاً لقوله «رَبِّي». وقيل: أي هو { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ } والغيب ما غاب عن العباد. وقد تقدّم بيانه في أوّل سورة «البقرة» { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً. إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه؛ لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات؛ وفي التنزيل: { { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } [آل عمران: 49]. وقال ٱبن جُبيرُ: «إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَى مِنْ رَسُولٍ» هو جبريل عليه السلام. وفيه بعدٌ، والأوْلى أن يكون المعنى: أي لا يظهر على غيبه إلا من ٱرتضى أي ٱصطفى للنبّوة، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه: ليكون ذلك دالا على نبوّته.

الثانية: قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدّح سبحانه بعلم الغيب وٱستأثر به دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحدٌ سواه، ثم ٱستثنى مَن ٱرتضاه من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزةً لهم ودلالةً صادقةً على نبوّتهم. وليس المنجّم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ٱرتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله مفترٍ عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على ٱختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسُّوقة، والعالم والجاهل، والغنيّ والفقير، والكبير والصغير، مع ٱختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم؛ فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة؟ فإن قال المنجم قبحه الله: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على ٱختلافها عند ولادة كل واحد منهم، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم. وفيه ٱستحلال دمه على هذا التنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال:

حَكم المنجِّمُ أن طالعَ مولِدِييقضِي عليّ بِميتةِ الغَرِقِ
قُلْ لِلْمُنَجِّمِ صَبْحَةَ الطُّوفَانِ هَلْوُلِد الْجَمِيعُ بكَوْكَبِ الْغَرَقَ

وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر في العقرب؟ فقال رضي الله عنه: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فٱنظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الردّ على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسِرْ في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه: ولم؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال عليّ رضي الله عنه: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم مُنَجِّم، ولا لنا من بعده ـ في كلام طويل يَحتجُّ فيه بآيات من التنزيل ـ فمن صدّقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن ٱتخذ من دون الله نِدًّا أو ضدّاً، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك. ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلاّ ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر؛ وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، واللَّهِ لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيتَ وبقيتُ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النَهْرَوَان الثابتة في الصحيح لمسلم. ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجّم ولا لنا مِن بعده، فتح الله علينا بلاد كِسرى وقيصر وسائر البُلدان ـ ثم قال: يا أيها الناس! توكلوا على الله وثِقوا به؛ فإنه يكفي ممن سواه. { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } يعني ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطان؛ فيحفظ الوحي من ٱستراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة. قال الضحاك: ما بعث الله نبياً إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة المَلَك، فإذا جاءه شيطان في صور المَلَك قالوا: هذا شيطان فٱحذره. وإن جاءه المَلَك قالوا: هذا رسول ربّك. وقال ٱبن عباس وٱبن زيد: «رَصَداً» أي حَفَظة يحفظون النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجنّ والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيّب: هم أربعة من الملائكة حفظة. وقال الفراء: المراد جبريل؛ كان إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجنّ الوحي، فيلقوه إلى كهنتهم، فيسبقوا الرسول. وقال السديّ: «رَصَداً» أي حفظة يحفظون الوحي، فما جاء من عند الله قالوا: إنه من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان. و«رَصَداً» نصب على المفعول. وفي الصحاح: والرَّصَدَ القوم يرصُدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا أرصاداً. والراصد للشيء الراقب له؛ يقال: رَصَدَه يَرْصُده رَصْداً ورَصَداً. والتَّرصد الترقب والمَرْصَد موضع الرّصد.