التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً
١٥
فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً
١٦
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً
١٧
ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً
١٨
إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
١٩
-المزمل

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً } يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسله إلى قريش { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } وهو موسى { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ } أي كذب به ولم يؤمن. قال مقاتل: ذكَر موسى وفرعون؛ لأن أهل مكة ٱزدرَوا محمداً صلى الله عليه وسلم وٱستخفوا به؛ لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون ٱزدرى موسى؛ لأنه ربّاه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: { { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } [الشعراء: 18]. قال المهدويّ: ودخلت الألف واللام في الرسول لتقدّم ذكره؛ ولذلك ٱختير في أوّل الكتب سلام عليكم، وفي آخرها السلام عليكم. { وَبِيلاً } أي ثقيلاً شديداً. وضَرْبٌ وبيل وعذاب وبيل: أي شديد؛ قاله ٱبن عباس ومجاهد. ومنه مطر وابل أي شديد؛ قاله الأخفش. وقال الزجاج: أي ثقيلاً غليظاً. ومنه قيل للمطر وابل. وقيل: مُهلكاً والمعنى عاقبناه عقوبة غليظة قال:

أَكَلْتِ بَنِيِك أَكْلَ الضَّبِّ حتىوجَدْتِ مَرَارةَ الْكَلإَ الْوَبِيلِ

واستوبل فلان كذا: أي لم يَحَمد عاقبته. وماء وبيل: أي وخيم غير مريء، وَكَلأٌ مستَوْبَل وطعام وبيل ومُستَوبَلٌ: إذا لم يُمْرِيء ولم يُسْتَمْرأْ؛ قال زهير:

فَقَضَّوْا مَنايَا بَيْنَهُمْ ثم أَصْدَرُواإِلَى كَلأٍ مُسْتَوَبَلٍ مُتَوَخَّمِ

وقالت الخنساء:

لَقَدْ أَكَلَتْ بَجِيلَةُ يومَ لاَقَتْفَوَارِسَ مَالك أَكْلاً وَبِيلاً

والوبيل أيضاً: العصا الضخمة؛ قال:

لوَ ٱصْبَحَ في يُمْنى يَدَيَّ زِمامُهاوفيِ كَفِّيَ الاُّخْرى وَبِيلٌ تُحاذِرُهْ

وكذلك المَوْبِل بكسر الباء، والمَوْبِلة أيضاً: الحُزْمة من الحطب، وكذلك الوَبِيل، قال طَرفة:

عَقِيـلَةُ شَيْـخ كالوَبيـلِ يَلَنْـدَد

قوله تعالى: { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } هو توبيخ وتقريع، أي كيف تتقونَ العذاب إن كفرتم. وفيه تقديم وتأخير، أي كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم. وكذا قراءة عبد الله وعطية. قال الحسن: أي بأي صلاة تتقون العذاب؟ بأي صوم تتقون العذاب؟ وفيه إضمار، أي كيف تتقون عذاب يوم. وقال قتادة: واللَّهِ ما يتقي من كفر بالله ذلك اليوم بشيء. و «يَوْماً» مفعول بـ«ـتَتَّقُونَ» على هذه القراءة وليس بظرف، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول «كَفَرْتُمْ». وقال بعض المفسرين: وقف التمام على قوله: { كَفَرْتُمْ } والابتداء «يَوْماً» يذهب إلى أن اليوم مفعول «يجعل» والفعل لله عز وجل، وكأنه قال: يجعل الله الولدان شيباً في يوم. قال ابن الأنباري: وهذا لا يصلح؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدّة هوله. المهدويّ: والضمير في «يجعل» يجوز أن يكون لله عز وجل، ويجوز أن يكون لليوم، وإذا كان لليوم صلح أن يكون صفة له، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله عز وجل إلا مع تقدير حذف؛ كأنه قال: يوماً يجعل الله الولدان فيه شيباً. ٱبن الأنباريّ: ومنهم من نصب اليوم بـ «ـكفرتم» وهذا قبيح؛ لأن اليوم إذا عُلّق بـ «ـكفرتم» ٱحتاج إلى صفة؛ أي كفرتم بيوم. فإن ٱحتج محتج بأن الصفة قد تحذف وينصب ما بعدها، ٱحتججنا عليه بقراءة عبد الله { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ يَوْماً }.

قلت: هذه القراءة ليست متواترة، وإنما جاءت على وجه التفسير. وإذا كان الكفر بمعنى الجحود فـ«ـيوماً» مفعول صريح من غير صفة ولا حذفها؛ أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء. وقرأ أبو السَّمَّال قَعْنَب «فكيف تتقونِ» بكسر النون على الإضافة. و { ٱلْوِلْدَانَ } الصبيان. وقال السُّدي: هم أولاد الزنا. وقيل: أولاد المشركين. والعموم أصح؛ أي يشيب فيه الصغير من غير كبر. وذلك حين يقال: "يا آدم قم فٱبعث بَعْث النار" . على ما تقدّم في أوّل سورة «الحج». قال القُشيريّ: ثم إن أهل الجنة يغيّر الله أحوالهم وأوصافهم على ما يريد. وقيل: هذا ضربُ مَثَل لشدّة ذلك اليوم وهو مجاز؛ لأن يوم القيامة لا يكون فيه وِلدان، ولكن معناه أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لَشابَ رأسه من الهيبة. ويقال: هذا وقت الفزع، وقبل أن يُنْفَخ في الصور نفخة الصعْق؛ فالله أعلم. الزمخشريّ: وقد مّر بي في بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثَّغامة، فقال: أرِيت القيامة والجنة والنار في المنام، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون. ويجوز أن يوصف اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيّب.

قوله تعالى: { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } أي متشققة لشدّته. ومعنى «بِهِ» أي فيه؛ أي في ذلك اليوم لهوله. هذا أحسن ما قيل فيه. ويقال: مُثْقَلة به إثقالاً يؤدّي إلى ٱنفطارها لعظمته عليها وخشيتها من وقوعه؛ كقوله تعالى: { { ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 187]. وقيل: «بِهِ» أي له، أي لذلك اليوم؛ يقال: فعلت كذا بحرمتك ولحرمتك، والباء واللام وفي: متقاربة في مثل هذا الموضع؛ قال الله تعالى: { { وَنَضَعُ ٱلْمَوَازِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [الأنبياء: 47] أي في يوم القيامة. وقيل: «بِهِ» أي بالأمر أي السماء مُنْفطر بما يجعل الولدان شِيباً. وقيل: منفطر بالله، أي بأمره. وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل منفطرة؛ لأن مجازها السقف؛ تقول: هذا سماء البيت؛ قال الشاعر:

فَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءُ إلَيْهِ قوماًلَحِقْنا بالسَّماءِ وبالسَّحابِ

وفي التنزيل: { { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [الأنبياء: 32]. وقال الفراء: السماء يذكر ويؤنث. وقال أبو علي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، و { { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [القمر: 20]. وقال أبو عليّ أيضاً: أي السماء ذات ٱنفطار؛ كقولهم: ٱمرأة مرضع، أي ذات إرضاع، فجرى على طريق النسب. { كَانَ وَعْدُهُ } أي بالقيامة والحساب والجزاء { مَفْعُولاً } كائناً لا شك فيه ولا خُلْف. وقال مقاتل: كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كلّه.

قوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } يريد هذه السورة أو الآيات عِظَة. وقيل: آيات القرآن، إذ هو كالسورة الواحدة. { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ } أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه { سَبِيلاً } أي طريقاً إلى رضاه ورحمته فليرغب، فقد أمكن له؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل: نسخت بآية السيف، وكذلك قوله تعالى: { { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [عَبَس: 12] قال الثعلبيّ: والأشبه أنه غير منسوخ.

رر