التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٠
-المزمل

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث عشرة مسألة:

الأولى ـ قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } هذه الآية تفسير لقوله تعالى: { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } كما تقدّم، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدّم. «تَقُومُ» معناه تصلّي و { أَدْنَىٰ } أي أقلّ. وقرأ ٱبن السَّمَيْقَع وأبو حَيْوة وهشام عن أهل الشام { ثُلُثَيِ } بإسكان اللام. { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } بالخفض قراءة العامة عطفاً على «ثُلُثَيِ»؛ المعنى: تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. وٱختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ كقوله تعالى: { عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ } فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ٱبن كثير والكوفيون «ونِصْفَهُ وَثُلُثَه» بالنصب عطفاً على «أَدْنَى» التقدير: تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفَه وثلثَه. قال الفراء: وهو أشبه بالصواب؛ لأنه قال أقلّ من الثلثين، ثم ذكر نفس القِلّة لا أقلّ من القلّة. القُشَيْري: وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر، وكانوا يزيدون، وفي الزيادة إصابة المقصود، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أُمروا بقيام نصف الليل، ورُخّص لهم في الزيادة والنقصان، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدّر لهم النصف وأنقص إلى الثلث، والزيادة إلى الثلثين، وكان فيهم من يفي بذلك، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نُسخ عنهم. وقال قوم: إنما ٱفترض الله عليهم الربع، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكُّم.

الثانية ـ قوله تعالى: { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، وأنتم تعلمون بالتحرّي والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. { عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ } أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيامَ به. وقيل: أي لن تطيقوا قيام الليل. والأوّل أصح؛ فإنّ قيام الليل ما فُرض كله قطّ. قال مقاتل وغيره: لما نزلت { قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطيء، فٱنتفخت أقدامهم، وٱنْتُقِعت ألوانهم، فرحمهم الله وخفّف عنهم؛ فقال تعالى: { عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ } و «أَنْ» مخفّفة من الثقيلة؛ أي علم أنكم لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم، وٱحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضاً، وإن نقصتم شقّ ذلك عليكم.

الثالثة ـ قوله تعالى: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي فعاد عليكم بالعفو، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل: أي فتاب عليكم من فرض القيام إذْ عجزتم. وأصل التوبة الرجوع كما تقدّم؛ فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف، ومن عُسْر إلى يُسْر. وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحرّي، فخّفف عنهم ذلك التحرّي. وقيل: معنى { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } يخلقهما مقدَّرَين؛ كقوله تعالى: { { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان: 2]. ٱبن العربي: تقدير الخلقة لا يتعلّق به حكم، وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف.

الرابعة ـ قوله تعالى: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } فيه قولان: أحدهما أن المراد نفس القراءة؛ أي فٱقرؤوا فيما تصلّونه بالليل ما خفّ عليكم. قال السُّديّ: مائة آية. الحسن: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كُتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية.

قلت: قول كعب أصح؛ لقوله عليه السلام: "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من الُمَقْنِطرين" خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو. وقد ذكرناه في مقدّمة الكتاب والحمد لله. القول الثاني: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ } أي فصلّوا ما تيسّر عليكم، والصلاة تسمى قرآناً؛ كقوله تعالى: { { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ } [الإسراء: 78] أي صلاة الفجر. ٱبن العربي: وهو الأصح؛ لأنه عن الصلاة أخبر، وإليها يرجع القول.

قلت: الأوّل أصح حملاً للخطاب على ظاهر اللفظ، والقول الثاني مجاز؛ فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.

الخامسة ـ قال بعض العلماء: قوله تعالى: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } نَسخَ قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم ٱحتمل قول الله عز وجل: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } معنيين أحدهما أن يكون فرضاً ثانياً؛ لأنه أزيل به فرضٌ غيره. والآخر أن يكون فرضاً منسوخاً أزيل بغيره كما أزيل به غيره؛ وذلك لقوله تعالى: { { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [الإسراء: 79] فاحتمل قوله تعالى: { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } أي يتهجد بغير الذي فُرض عليه مما تيسّر منه. قال الشافعيّ: فكان الواجب طلب الاستدلال بالسُّنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.

السادسة ـ قال القُشيريّ أبو نصر: والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حقّ الأمة، وبقيت الفريضة في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: نسخ التقدير بمقدار، وبقي أصل الوجوب؛ كقوله تعالى: { { فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة: 196] فالهدي لا بدّ منه، كذلك لم يكن بُدٌّ من صلاة الليل، ولكن فُوّض قدره إلى ٱختيار المصلّي، وعلى هذا فقد قال قوم: فَرْض قيام الليل بالقليل باقٍ؛ وهو مذهب الحسن. وقال قوم: نسخ بالكلية، فلا تجب صلاة الليل أصلاً؛ وهو مذهب الشافعي. ولعل الفريضة التي بقيت في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هي هذا، وهو قيامه، ومقداره مفوّض إلى خِيرتِه. وإذا ثبت أن القيام ليس فرضاً فقوله تعالى: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } معناه ٱقرؤوا إن تيّسر عليكم ذلك، وصلّوا إن شئتم. وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرّر في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضاً، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه. وقوله: { نَافِلَةً لَّكَ } محمول على حقيقة النفل. ومن قال: نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة؛ كقوله تعالى: { { أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [الإسراء: 78]، وقوله: { { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [الروم: 17]، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوّع. وقيل: وقع النسخ بقوله تعالى: { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللأمة، كما أنّ فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلْلَّيْلَ } كانت عامة له ولغيره. وقد قيل: إن فريضة الله ٱمتدّت إلى ما بعد الهجرة، ونسخت بالمدينة؛ لقوله تعالى: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }، وإنما فرض القتال بالمدينة؛ فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى: { { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [الإسراء: 79]. وقال ٱبن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نَسَخ قولُ الله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ } وجوبَ صلاة الليل.

السابعة ـ قوله تعالى: { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } الآية؛ بيّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخَلْق منهم المريض، ويشّق عليهم قيام الليل، ويشقّ عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفّف الله عن الكل لأجل هؤلاء. و «أَنْ» في «أَنْ سَيَكُونُ» مخففة من الثقيلة؛ أي علم أنه سيكون.

الثامنة ـ سَوَّى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله، والإحسان والإفضال، فكان هذا دليلاً على أن كسب المال بمنزلة الجهاد؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. وروي إبراهيم عن علقمة قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من جالب يجلب طعاماً من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } وقال ٱبن مسعود: أيّما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء. وقرأ { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ } الآية. وقال ٱبن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحبّ إليّ من الموت بين شعبتي رَحْلِي، ٱبتغي من فضل الله ضارباً في الأرض. وقال طاوس: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وعن بعض السلف أنه كان بواسط، فجهز سفينة حِنطة إلى البصرة، وكتب إلى وكيله: بِعِ الطعام يوم تدخل البصرة، ولا تؤخره إلى غدٍ؛ فوافق سعةً في السعر؛ فقال التجار للوكيل: إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله، فكتب إلى صاحبه بذلك، فكتب إليه صاحب الطعام: يا هذاٰ إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا، وقد جنيت علينا جناية، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدّق به على فقراء البصرة، وليتني أنجو من الاحتكار كَفافاً لا عليّ ولا لي. ويروي أن غلاماً من أهل مكة كان ملازماً للمسجد، فافتقده ٱبن عمر، فمشي إلى بيته، فقالت أمه: هو على طعام له يبيعه؛ فلقيه له: يا بني! مالك وللطعام؟ فهلاّ إبلاً، فهلاّ بقراً، فهلاّ غنما! إن صاحب الطعام يحب المَحْل، وصاحب الماشية يحب الغيث.

التاسعة ـ قوله تعالى: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } أي صلّوا ما أمكن؛ فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدّم. قال ٱبن العربي وقد قال قوم: إن فرض قيام الليل سُنَّ في ركعتين من هذه الآية؛ قاله البخاريّ وغيره، وعقد باباً ذكر فيه حديث. "يَعقِد الشيطانُ على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَد، يضرب على كل عُقْدَة مكانها: عليك ليل طويل فٱرقد. فإن ٱستيقظ فذكر الله ٱنحلت عُقْدة، فإن توضأ ٱنحلت عُقْدة، فإن صلّى ٱنحلت عُقَده كلّها، فأصبح نشيطاً طيّب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان" وذكر حديث سَمُرة بن جُنْدُبَ "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرؤيا قال: أما الذي يُثْلَغ رأسُه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفُضه، وينام عن الصلاة المكتوبة" . وحديث عبد الله بن مسعود قال: "ذكر عند النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كلّه فقال: ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه" فقال ٱبن العربيّ: فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة؛ فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له، وتسقط الدعوى ممَّن عيَّنه لقيام الليل. وفي الصحيح واللفظُ للبخاري: قال عبد الله بن عمرو: وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله لا تكن مثَل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل" ولو كان فرضاً ما أقره النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه، بل كان يذمه غاية الذمّ، وفي الصحيح "عن عبد الله بن عمر قال: كان الرجل في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأي رؤيا قصّها على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاماً شابًّا عَزَباً، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطويّة كطيّ البئر، وإذا لها قرنان، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار. قال: ولقينا مَلَك آخر، فقال لي: لم تُرَعْ. فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلّي من الليل" ، فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً؛ فلو كان تَرْك القيام معصية لما قال له المَلك: لم تُرَعْ. والله أعلم.

العاشرة ـ إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، وأن قوله: { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ }؛ { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة؛ فقال مالك والشافعيّ: فاتحة الكتاب لا يجزيء العدول عنها، ولا الاقتصار على بعضها، وقدّره أبو حنيفة بآية واحدة، من أيّ القرآن كانت. وعنه ثلاث آيات؛ لأنها أقلّ سورة. ذكر القول الأوّل الماورديّ والثاني ٱبن العربيّ. والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعيّ، على ما بيّناه في سورة «الفاتحة» أوّل الكتاب والحمد لله. وقيل: إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة؛ قال الماورديّ: فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولاً على الوجوب، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الأكثرين؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه. الثاني أنه محمول على الوجوب؛ ليقف بقراءته على إعجازه، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه؛ لأن حِفظ القرآن من القُرَب المستحبة دون الواجبة. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال: أحدها جميع القرآن؛ لأن الله تعالى يسره على عبادِه؛ قاله الضحاك. الثاني ثلث القرآن؛ حكاه جوبير. الثالث مائتا آية؛ قاله السُّديّ. الرابع مائة آية؛ قاله ٱبن عباس. الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة؛ قاله أبو خالد الكناني.

الحادية عشرة ـ قوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. { وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ } الواجبة في أموالكم؛ قاله عكرمة وقتادة. وقال الحارث العُكْلي: صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوّع. وقيل: كل أفعال الخير. وقال ٱبن عباس: طاعة الله والإخلاص له.

الثانية عشرة ـ قوله تعالى: { وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصاً من المال الطيّب. وقد مضى في سورة «الحديد» بيانه. وقال زيد ٱبن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقال عمر بن الخطاب: هو النفقة في سبيل الله.

الثالثة عشرة ـ قوله تعالى: { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } «البقرة». وروي عن عمر بن الخطاب أنه ٱتخذ حَيْساً ـ يعني تمراً بلبن ـ فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم: ما يدري هذا المسكين ما هذا؟ فقال عمر: لكن رب المسكين يدري ما هو. وكأنه تأوّلَ { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً } أي مما تركتم وخلفتم، ومن الشّح والتقصير. { وَأَعْظَمَ أَجْراً } قال أبو هريرة: الجنة؛ ويحتمل أن يكون أعظم أجراً؛ لإعطائه بالحسنة عشراً. ونصب «خيرا وأَعْظَم» على المفعول الثاني لـ «ـتَجِدُوهُ» و «هو»: فصل عند البصريين، وعماد في قول الكوفيين، لا محل له من الإعراب. و «أَجْرَاً» تمييز. { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } أي سلوه المغفرة لذنوبكم { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } لما كان قبْلَ التوبة { رَّحِيمٌ } لكم بعدها؛ قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة والحمد لله.