التفاسير

< >
عرض

إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً
٦
إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً
٧
-المزمل

الجامع لاحكام القرآن

فيه خمس مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } قال العلماء: نائشة الليل أي أوقاته وساعاته، لأن أوقاته تنشأ أوّلاً فأولاً؛ يقال: نشأ الشيء ينشأ: إذا ٱبتدأ وأقبل شيئاً بعد شيء، فهو ناشىء وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله؛ فناشئة: فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة، ومنه قوله تعالى: { { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } [الزخرف: 18] والمراد إن ساعات الليل النائشة، فٱكتفى بالوصف عن الاسم، فالتأنيث للفظ ساعة، لأن كل ساعة تحدث. وقيل: الناشئة مصدر بمعنى قيام الليل كالخاطئة والكاذبة؛ أي إن نشأة الليل هي أشدّ وطأ. وقيل: إن ناشئة الليل قيام الليل. قال ٱبن مسعود: الحَبَشة يقولون: نشأ أي قام. فلعله أراد أن الكلمة عربية، ولكنها شائعة في كلام الحبشة، غالبة عليهم، وإلا فليس في القرآن ما ليس في لغة العرب. وقد تقدّم بيان هذا في مقدّمة الكتاب مستوفًى.

الثانية ـ بيّن تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن، أعظم للأجر، وأجلب للثواب.

وٱختلف العلماء في المراد بناشئة الليل؛ فقال ٱبن عُمر وأنس بن مالك: هو ما بين المغرب والعشاء، تمسكاً بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء، فكان بالأولية أحقّ؛ ومنه قول الشاعر:

ولولا أَنْ يُقالَ صَبَا نُصَيبٌلَقلتُ بِنفسِيَ النَّشَأ الصِّغارُ

وكان عليّ بن الحسين يصلّي بين المغرب والعشاء ويقول: هذا ناشئة الليل. وقال عطاء وعِكرمة: إنه بدء الليل. وقال ٱبن عباس ومجاهد وغيرهما: هي الليل كله؛ لأنه ينشأ بعد النهار، وهو الذي ٱختاره مالك بن أنس. قال ٱبن العربيّ: وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة. وقالت عائشة وٱبن عباس أيضاً ومجاهد: إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم. ومن قام أوّل الليل قبل النوم فما قام نائشة. فقال يَمان وٱبن كَيْسان: هو القيام من آخر الليل. وقال ٱبن عباس: كانت صلاتهم أوّل الليل. وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وفي الصحاح: وناشئة الليل أوّل ساعاته. وقال القُتَبيّ: إنه ساعات الليل؛ لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة. وعن الحسن ومجاهد: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن الحسن أيضاً: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. ويقال: ما ينشأ في الليل من الطاعات؛ حكاه الجوهريّ.

الثالثة ـ قوله تعالى: { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } قرأ أبو العالية وأبو عمرو وٱبن أبي إسحاق ومجاهد وحُميد وٱبن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حَيْوة «وِطَاء» بكسر الواو وفتح الطاء والمدّ، وٱختاره أبو عبيد. الباقون: «وَطأً» بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، وٱختاره أبو حاتم؛ من قولك: ٱشتدت على القوم وطأة سلطانهم. أي ثقل عليهم ما حمَّلهم من المُؤَن، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهم ٱشدد وطأتك على مُضَر" فالمعنى أنها أثقل على المصلّي من ساعات النهار. وذلك أن الليل وقت منام وتودّع وإجمام، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة. ومن مدّ فهو مصدر واطأت وِطاء ومواطأة أي وافقته. ٱبن زيد واطأته على الأمر مواطأة: إذا وافقته من الوِفاق، وفلان يواطىء ٱسمه ٱسمي، وتواطؤُ عليه أي توافقوا؛ فالمعنى أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان؛ لانقطاع الأصوات والحركات؛ قاله مجاهد وٱبن أبي مُلَيكة وغيرهما. وقال ٱبن عباس بمعناه، أي يواطىء السمع القلب؛ قال الله تعالى: { { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } [التوبة: 37] أي ليوافقوا. وقيل: المعنى أشد مِهاداً للتصرف في التفكر والتدبر. والوِطاء خلاف الغِطاء. وقيل: «أَشَدُّ وَطْأً» بسكون الطاء وفتح الواو أي أشد ثباتاً من النهار؛ فإن الليل يخلو فيه الإنسان بما يعمله، فيكون ذلك أثبت للعمل وأتفى لما يلهى ويشغل القلب. والوطأ الثبات، تقول: وطئت الأرض بقدَمي. وقال الأخفش: أشد قياماً. الفراء: أثبت قراءة وقياماً. وعنه: { أَشَدُّ وَطْأً } أي أثبت للعمل وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت فراغ عن ٱشتغال المعاش، فعبادته تدوم ولا تنقطع. وقال الكلبي: { أَشَدُّ وَطْأً } أي أشد نشاطاً للمصلّي؛ لأنه في زمان راحته. وقال عبادة: «أَشَدُّ وَطأً» أي نشاطاً للمصلّي وأخفّ، وأثبت للقراءة.

الرابعة ـ قوله تعالى: { وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي القراءة بالليل أقوم منها بالنهار؛ أي أشد ٱستقامة وٱستمراراً على الصواب؛ لأن الأصوات هادئة، والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلّي ما يقرؤه. قال قتادة ومجاهد: أي أصوب للقراءة وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم. وقال أبو علي: «أَقْوَمُ قِيلاً» أي أشد ٱستقامة لفراغ البال بالليل. وقيل: أي أعجل إجابة للدعاء. حكاه ٱبن شجرة. وقال عِكرمة: عبادة الليل أتم نشاطاً، وأتم إخلاصاً، وأكثر بركة. وعن زيد ٱبن أسلم: أجدر أن يتفقَّه في القرآن. وعن الأعمش قال: قرأ أنس بن مالك «إن نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَصْوَبُ قِيلاً» فقيل له: «وَأَقْوَمُ قِيلاً» فقال: أقوم وأصوب وأهيأ: سواء. قال أبو بكر الأنباريّ: وقد ترامى ببعض هؤلاء الزائغين إلى أن قال: من قرأ بحرف يوافق معنى حرف من القرآن فهو مصيب، إذا لم يخالف معنًى ولم يأت بغير ما أراد الله وقصد له، وٱحتجوا بقول أنس هذا. وهو قول لا يُعرَّج عليه ولا يلتفت إلى قائله؛ لأنه لو قرأ بألفاظ تخالف ألفاظ القرآن إذا قاربت معانيها وٱشتملت على عامتها، لجاز أن يقرأ في موضع { { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2]: الشكر للباري ملك المخلوقين، ويتسع الأمر في هذا حتى يبطل لفظ جميع القرآن، ويكون التالي له مفترياً على الله عز وجل، كاذباً على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا حجة لهم في قول ٱبن مسعود: نزل القرآن على سبعة أحرف، إنما هو كقول أحدكم: هَلُمّ وتعال وأقبل؛ لأن هذا الحديث يوجب أن القراءات المأثورة المنقولة بالأسانيد الصحاح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا ٱختلفت ألفاظها، وٱتفقت معانيها، كان ذلك فيها بمنزلة الخلاف في هلمّ، وتعال، وأقبل، فأما ما لم يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعوهم رضي الله عنهم، فإنه من أورد حرفاً منه في القرآن بهت ومال وخرج من مذهب الصواب. قال أبو بكر: والحديث الذي جعلوه قاعدتهم في هذه الضلالة حديث لا يصح عن أحد من أهل العلم؛ لأنه مبني على رواية الأعمش عن أنس، فهو مقطوع ليس بمتصل فيؤخذ به، من قِبَل أن الأعمش رأى أنساً ولم يسمع منه.

الخامسة ـ قوله تعالى: { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } قراءة العامة بالحاء غير معجمة؛ أي تصرُّفاً في حوائجك، وإقبالاً وإدباراً وذهاباً ومجيئاً. والسبْح: الجري والدوران، ومنه السابح في الماء؛ لتقلبه بيديه ورجليه. وفرس سابح: شديد الجري؛ قال ٱمرؤ القيس:

مِسَحٌّ إِذا ما السَّابِحاتُ على الوَنَىأثَرْنَ الغُبارَ بِالكَدِيدِ المُرَكَّلِ

وقيل: السبح الفراغ؛ أي إن لك فراغاً للحاجات بالنهار. وقيل: { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً } أي نوماً، والتسبح التمدّد؛ ذكره الخليل. وعن ٱبن عباس وعطاء: «سَبْحاً طَوِيلاً» يعني فراغاً طويلاً لنومك وراحتك، فاجعل ناشئة الليل لعبادتك. وقال الزجاج: إن فاتك في الليل شيء فلك في النهار فراغ الاستدراك.

وقرأ يحيـى بن يَعْمَر وأبو وائل «سَبْخا» بالخاء المعجمة. قال المهدويّ: ومعناه النوم؛ روي ذلك عن القارئين بهذه القراءة. وقيل: معناه الخفة والسَّعة والاستراحة؛ ومنه "قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد دعت على سارق ردائها: لا تُسبِّخِي عنه بدعائك عليه" . أي لا تخفّفي عنه إثمه؛ قال الشاعر:

فَسَبِّخْ عليك الْهَمَّ وٱعلم بِأَنَّهُإذا قَدَّرَ الرحْمنُ شيئاً فَكَائِنُ

الأصمعيّ: يقال سَبَّخ اللَّهُ عنك الحُمَّى أي خفّفها. وسَبَخ الحَرُّ: فتر وخَفَّ. والتَّسبِيخ النوم الشديد. والتَّسبيخ أيضاً توسيع القطن والكَتَّان والصوف وتنفيشها؛ يقال للمرأة: سبخي قطنك. والسَّبيخُ من القطن ما يسبَّخ بعد النَّدْف، أي يُلفّ لتغزله المرأة، والقطعة منه سَبِيخة، وكذلك من الصوف والوبر. ويقال لقطع القطن سبائخ؛ قال الأخطل يصف القُنَّاص والكلاب:

فأَرسَلُوهُنَّ يُذْرِينَ التّرابَ كمايُذْرِي سَبَائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أَوْتَارِ

وقال ثعلب: السَّبْخ بالخاء التردّد والاضطراب، والسَّبْخ أيضاً السكون؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الحُمّى من فيح جهنم، فسبِّخوها بالماء" أي سكِّنوها. وقال أبو عمرو: السَّبْخ: النوم والفراغ.

قلت: فعلى هذا يكون من الأضداد، وتكون بمعنى السبح، بالحاء غير المعجمة.