التفاسير

< >
عرض

ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً
١١
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً
١٢
وَبَنِينَ شُهُوداً
١٣
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً
١٤
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ
١٥
كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً
١٦
سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً
١٧
-المدثر

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } { ذَرْنِي } أي دعني؛ وهي كلمة وعيد وتهديد. { وَمَنْ خَلَقْتُ } أي دعني والذي خلقتُه وحيداً؛ فـ «ـوحيداً» على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف، أي خلقته وحده، لا مال له ولا ولد، ثم أعطيتهُ بعد ذلك ما أعطيته. والمفسرون على أنه الوليد بن المغيرة المخزوميّ، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه. وإنما خُصّ بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة وإيذاء الرسول عليه السلام، وكان يسمَّى الوحيد في قوله. قال ٱبن عباس: كان الوليد يقول: أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي المغيرة نظير، وكان يسمى الوحيد؛ فقال الله تعالى: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ } بزعمه { وَحِيداً } لا أن الله تعالى صدّقه بأنه وحيد. وقال قوم: إن قوله تعالى: { وَحِيداً } يرجع إلى الربّ تعالى على معنين: أحدهما: ذرني وحدي معه فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم. والثاني: أني ٱنفردت بخلقه ولم يشركني فيه أحد، فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه؛ فـ «ـوحِيداً» على هذا حال من ضمير الفاعل، وهو التاء في «خَلَقْتُ» والأوّل قول مجاهد، أي خلقته وحيداً في بطن أمه لا مال له ولا ولد، فأنعمت عليه فكفر؛ فقوله: «وِحيداً» على هذا يرجع إلى الوليد، أي لم يكن له شيء فملكته. وقيل: أراد بذلك ليدله على أنه يبعث وحيداً كما خُلق وحيداً. وقيل: الوحيد الذي لا يُعرف أبوه، وكان الوليد معروفاً بأنه دَعِيّ؛ كما ذكرنا في قوله تعالى: { { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } [القلم: 13] وهو في صفة الوليد أيضاً.

قوله تعالى: { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } أي خوّلته وأعطيته مالاً ممدوداً، وهو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والحُجُور والنَّعَم والجِنان والعبيد والجواري، كذا كان ٱبن عباس يقول. وقال مجاهد: غلّة ألف دينار؛ قاله سعيد بن جبير وٱبن عباس أيضاً. وقال قتادة: ستة آلاف دينار. وقال سفيان الثوري وقتادة: أربعة آلاف دينار. الثوريّ أيضاً: ألف ألف دينار. مقاتل: كان له بستان لا ينقطع خيره شتاءً ولا صيفاً. وقال عمر رضي الله عنه: { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } غلة شهر بشهر. النعمان بن سالم: أرضاً يزرع فيها. القشيريّ: والأظهر أنه إشارة إلى ما لا ينقطع رزقه، بل يتوالى كالزرع والضرع والتجارة.

قوله تعالى: { وَبَنِينَ شُهُوداً } أي حضوراً لا يغيبون عنه في تصرف. قال مجاهد وقتادة: كانوا عشرة. وقيل: ٱثنا عشر؛ قاله السّديّ والضحاك. قال الضحاك: سبعة ولدوا بمكة وخمسةٌ ولدوا بالطائف. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولداً. مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، أسلم منهم ثلاثة: خالد وهشام والوليد بن الوليد. قال: فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك. وقيل: شهوداً، أي إذا ذُكر ذكروا معه؛ قاله ٱبن عباس. وقيل: شهوداً، أي قد صاروا مثله في شهود ما كان يشهده، والقيام بما كان يباشره. والأوّل قول السديّ، أي حاضرين مكة لا يظعنون عنه في تجارة ولا يغيبون.

قوله تعالى: { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } أي بسطت له في العيش بسطاً، حتى أقام ببلدته مطمئناً مترفهاً يُرجع إلى رأيه. والتمهيد عند العرب: التوطئة والتهيئة؛ ومنه مَهْدُ الصبيّ. وقال ٱبن عباس: { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } أي وسّعت له ما بين اليمن والشام؛ وقاله مجاهد. وعن مجاهد أيضاً في { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.

قوله تعالى: { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } أي ثم إن الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد. { كَلاَّ } أي ليس يكون ذلك مع كفره بالنعم. وقال الحسن وغيره: أي ثم يطمع أن أدخله الجنة، وكان الوليد يقول: إن كان محمد صادقاً فما خُلقت الجنة إلا لي؛ فقال الله تعالى ردًّا عليه وتكذيباً له: { كَلاَّ } أي لستُ أزيده، فلم يزل يرى النقصان في ماله وولده حتى هلك. و «ثُمَّ» في قوله تعالى: { ثُمَّ يَطْمَعُ } ليست بثم التي للنَّسق ولكنها تعجيب؛ وهي كقوله تعالى: { { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [الأنعام: 1] وذلك كما تقول: أعطيتك ثم أنت تجفوني؛ كالمتعجّب من ذلك. وقيل يطمع أن أترك ذلك في عقبه؛ وذلك أنه كان يقول: إن محمداً مبتور؛ أي أبتر وينقطع ذكره بموته. وكان يظنّ أن ما زرق لا ينقطع بموته. وقيل: أي ثم يطمع أن أنصره على كفره. و { كَلاَّ } قطعٌ للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة؛ فيكون متصلاً بالكلام الأوّل. وقيل: { كَلاَّ } بمعنى حقًّا ويكون ٱبتداء. { إِنَّهُ } يعني الوليد { كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } أي معانداً للنبيّ صلى الله عليه وسلم وما جاء به؛ يقال: عاند فهو عنِيد مثل جالِس فهو جلِيس؛ قاله مجاهد. وعَنَدَ يَعْنِد بالكسر أي خالف وردّ الحقّ وهو يعرفه فهو عنِيد وعانِد. والعانِد: البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد والجمع عُنَّد مثل راكِع ورُكَّع؛ وأنشد أبو عبيدة قول الحارثيّ:

إذا رَكِبتُ فٱجْعَلاَنِي وَسَطَاإنِّي كَبيرٌ لا أطيقُ الْعُنَّدَا

وقال أبو صالح: { عَنِيداً } معناه مباعداً؛ قال الشاعر:

أرَانا على حالٍ تُفَرِّقُ بَيْنَنَانَوْىً غَرْبَةٌ إنّ الفِرَاقَ عَنُود

قتادة: جاحداً. مقاتل: معرضاً. ٱبن عباس: جحوداً. وقيل: إنه المجاهر بعدوانه. وعن مجاهد أيضاً قال: مجانباً للحق معانداً له معرضاً عنه. والمعنى كله متقارب. والعرب تقول: عَنَد الرجل إذا عَتا وجاوز قدره. والعَنُود من الإبل: الذي لا يخالط الإبل، إنما هو في ناحية. ورجل عَنُود إذا كان يحلّ وحده لا يخالط الناس. والعنيد من التجبر. وعرق عاند: إذا لم يَرقأ دمه، كل هذا قياس واحد وقد مضى في سورة «إبراهيم». وجمع العنيد عُنُد، مثل رِغيف ورغُفُ.

قوله تعالى: { سَأُرْهِقُهُ } أي سأكلفه. وكان ٱبن عباس يقول: سألجئه؛ والإرهاق في كلام العرب: أن يُحَمل الإنسان على الشيء. { صَعُوداً }. "الصَّعُودُ: جبل من نار يتصعّد فيه سَبْعين خَريفاً ثم يَهْوِي كَذَلكَ فيه أبَدا" رواه أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، خرجه الترمذيّ وقال فيه حديث غريب. وروى عطية عن أبي سعيد قال: صخرة في جهنم إذا وضعوا عليها أيديهم ذابت فإذا رفعوها عادت، قال: فيبلغ أعلاها في أربعين سنة يُجذب من أمامه بسلاسل ويضْرب من خلفه بمقامع، حتى إذا بلغ أعلاها رمَى به إلى أسفلها، فذلك دأبه أبداً. وقد مضى هذا المعنى في سورة { قُلْ أُوحِيَ }. وفي التفسير: أنه صخرة ملساء يكلّف صعودها فإذا صار في أعلاها حُدِر في جهنم، فيقوم يهوِي ألف عام من قبل أن يبلغ قرار جهنم، يحترق في كل يوم سبعين مرّة ثم يعاد خلقاً جديداً. وقال ٱبن عباس: المعنى سأكلفه مشقّة من العذاب لا راحة له فيه. ونحوه عن الحسن وقتادة. وقيل: إنه تصاعد نفسه للنزع وإن لم يتعقبه موت، ليُعذّب من داخل جسده كما يعذّب من خارجه.