التفاسير

< >
عرض

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ
١٨
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
١٩
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ
٢٠
ثُمَّ نَظَرَ
٢١
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ
٢٢
ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ
٢٣
فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ
٢٤
إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ
٢٥
-المدثر

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } يعني الوليد فكر في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم والقرآن و «قَدَّرَ» أي هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: قدّرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما نزل: { { حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [غافر: 1]إلى قوله: { إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } سمعه الوليد يقرؤها فقال: والله لقد سمعت منه كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ، وإن له لحَلاوة، وإن عليه لطُلاوة، وإن أعلاه لمثِمر، وإن أسفله لمغِدق، وإنه ليعلو ولا يُعْلَى عليه، وما يقول هذا بشر. فقالت قريش: صَبَا الوليدُ لتَصبونّ قريش كلها. وكان يقال للوليد ريحانة قريش؛ فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه. فمضى إليه حزيناً؟ فقال له: ما لي أراك حزيناً. فقال له: وما لي لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك بها على كبر سنك ويزعمون أنك زينت كلام محمد، وتدخل على ٱبن أبي كبشة وٱبن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما؛ فغضب الوليد وتكبر، وقال: أنا أحتاج إلى كِسر محمد وصاحبه، فأنتم تعرفون قدر مالي، والّلات والعُزّى ما بي حاجة إلى ذلك، وإنما أنتم تزعمون أن محمداً مجنون، فهل رأيتموه قطّ يَخنُق؟ قالوا: لا واللَّهِ. قال: وتزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه نطق بشعر قطّ؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كذّاب فهل جرّبتم عليه كذباً قط؟ قالوا: لا والله. قال: فتزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهّن قط، ولقد رأينا للكهنة أسجاعاً وتخالجاً فهل رأيتموه كذلك؟ قالوا: لا واللَّهِ. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُسَمَّى الصادق الأمين من كثرة صدقه. فقالت قريش للوليد: فما هو؟ ففكّر في نفسه، ثم نظر، ثم عبس، فقال: ما هو إلا ساحر! أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟! فذلك قوله تعالى: { إِنَّهُ فَكَّرَ } أي في أمر محمد والقرآن { وَقَدَّرَ } في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما. { فَقُتِلَ } أي لُعن. وكان بعض أهل التأويل يقول: معناها فقهر وغُلب، وكل مُذَلَّل مُقتَّل؛ قال الشاعر:

ومَا ذَرَفَتْ عيناكِ إلاّ لِتَقْدَحِيبسَهْمَيْكِ في أَعْشارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ

وقال الزهريّ: عُذَّب؛ وهو من باب الدعاء. { كَيْفَ قَدَّرَ } قال ناسٌ: «كَيْفَ» تعجيب؛ كما يقال للرجل تتعجب من صنيعه: كيف فعلت هذا؟ وذلك كقوله: { ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ }. { ثُمَّ قُتِلَ } أي لُعن لعناً بعد لَعن. وقيل: فقتل بضرب من العقوبة، ثم قتل بضرب آخر من العقوبة { كَيْفَ قَدَّرَ } أي على أي حال قَدر. { ثُمَّ نَظَرَ } بأي شيء يرد الحقّ ويدفعه. { ثُمَّ عَبَسَ } أي قَطَّب بين عينيه في وجوه المؤمنين؛ وذلك أنه لما حمل قريشاً على ما حملهم عليه من القول في محمد صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، مرّ على جماعة من المسلمين، فدعوه إلى الإسلام، فعبس في وجوههم.. قيل: عَبَس وبَسَر على النبيّ صلى الله عليه وسلم حين دعاه. والعَبْس مخفّفاً مصدر عَبَسَ يَعْبِسُ عَبْساً وعُبُوساً: إذا قطَّبَ. والعَبسَ ما يتعلق بأذناب الإبل من أبعارها وأبوالها؛ قال أبو النَّجْم:

كأَنَّ في أَذْنابِهِنّ الشُّوَّلِمن عَبَسِ الصَّيفِ قُرونَ الأُيَّلِ

{ وَبَسَرَ } أي كَلَح وجهه وتغيّر لونه؛ قاله قتادة والسُّديّ؛ ومنه قول بشر بن أبي خازم:

صَبَحْنَا تَمِيماً غَدَاةَ الجِفَارِبِشَهْبَاءَ مَلْمُومَةٍ باسِرَهْ

وقال آخر:

وقَدْ رَابنِي مِنْها صُدودٌ رَأَيْتُهُوإِعْراضُها عَنْ حاجتي وبُسُورُها

وقيل: إن ظهور العُبوس في الوجه بعد المحاورة، وظهور البُسور في الوجه قبل المحاورة. وقال قوم: «بَسَر»: وَقَف لا يتقدم ولا يتأخر. قالوا: وكذلك يقول أهل اليمن إذا وقف المركب، فلم يجيء ولم يذهب: قد بسر المركب، وأَبْسَر أي وقف وقد أبسرنا. والعرب تقول: وجه باسر بيِّن البسور: إذا تغير وٱسود. { ثُمَّ أَدْبَرَ } أي ولّى وأعرض ذاهباً إلى أهله. { وَٱسْتَكْبَرَ } أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل: أدبر عن الإيمان وٱستكبر حين دُعي إليه. { فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ } أي ما هذا الذي أتي به محمد صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } أي يأثِره عن غيره. والسِّحر: الخديعة. وقد تقدم بيانه في سورة «البقرة». وقال قوم: السحر: إظهار الباطل في صورة الحق. والأثره: مصدر قولك: أثرت الحديث آثرِه إذا ذكرته عن غيرك؛ ومنه قيل: حديث مأثور: أي ينقله خلف عن سلف؛ قال ٱمرؤ القيس:

ولو عَنْ نَثَا غَيرِه جاءنِيوجُرْحُ اللِّسانِ كَجُرْح اليدِ
لَقُلْتُ مِن القول ما لاَ يَزالُ يُؤثَرُ عنِّي يَدَ الْمُسْنَدِ

يريد: آخر الدهر. وقال الأعشى:

إنّ الذي فيه تمارَيْتُمَابُيِّنَ لِلسَّامِعِ والآثِرِ

ويروى: بَيَّنَ. { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } أي ما هذا إلا كلام المخلوقين، يَختدِع به القلوب كما تختدع بالسحر. قال السُّديّ: يعنون أنه من قول سيارٍ عبدٍ لبني الحضرميّ، كان يجالس النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك. وقيل: أراد أنه تلقنه من أهل بابل. وقيل: عن مُسَيلمة. وقيل: عن عديّ الحضرميّ الكاهن. وقيل: إنما تلقنه ممن ٱدعى النبوة قبله، فنسج على منوالهم. قال أبو سعيد الضرير: إن هذا إلا أمر سحر يؤثر؛ أي يورث.