التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ
٦
-المدثر

الجامع لاحكام القرآن

فيه ثلاث مسائل:

الأولى ـ قوله تعالى: { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } فيه أحد عشر تأويلاً؛ الأوّل ـ لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوّة، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير. الثاني ـ لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها؛ قاله ٱبن عباس وعِكرمة وقتادة. قال الضحاك: هذا حرمه الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته؛ وقاله مجاهد. الثالث ـ عن مجاهد أيضاً: لا تَضْعُفْ أن تستكثر من الخير؛ من قولك حبل منين إذا كان ضعيفاً؛ ودليله قراءة ٱبن مسعود «وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثْرِ مِنَ الْخَيْرِ». الرابع ـ عن مجاهد أيضاً والربيع: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك. قال ٱبن كيسان: لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك مِنَّة من الله عليك؛ إذ جعل الله لك سبيلاً إلى عبادته. الخامس ـ قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره. السادس ـ لا تمنن بالنبوّة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجراً تستكثر به. السابع ـ قال القرظيّ: لا تعط مالك مصانعة. الثامن ـ قال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك. التاسع ـ لا تقل دعوت فلم يستجب لي. العاشر ـ لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها، ولكن ٱصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها. الحادي عشر ـ لا تفعل الخير لترائى به الناس.

الثانية ـ هذه الأقوال وإن كانت مرادة فأظهرها قول ٱبن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال؛ يقال: مننت فلاناً كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المِنّة؛ فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا؛ ولهذا قال: "مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم" . وكان ما يفضل من نفقة عياله مصروفاً إلى مصالح المسلمين؛ ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادّخار والاقتناء، وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شيء من الدنيا؛ ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية، فكان يقبلها ويثيب عليها. وقال: "لو دعيت إلى كُرَاع لأجبت ولو أهدي إليَّ ذراع لقبلت" ابن العربيّ: وكان يقبلها سُنَّة ولا يستكثرها شِرعة، وإذا كان لا يعطِي عطية يستكثر بها فالأغنياء أولى بالاجتناب؛ لأنها باب من أبواب المذلّة، وكذلك قول من قال: إن معناها لا تعطِي عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وذلك في حيزه بحكم الامتناع، وقد قال الله تعالى له: { { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [طه: 131] وذلك جائز لسائر الخلق؛ لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها. وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح؛ فإن ٱبن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.

الثالثة ـ قوله تعالى: { وَلاَ تَمْنُن } قراءة العامة بإظهار التضعيف. وقرأ أبو السَّمّال العدويّ وأشهب العُقيليّ والحسن «وَلاَ تَمُنَّ» مدغمة مفتوحة. «تَسْتَكْثرُ»: قراءة العامة بالرفع وهو في معنى الحال، تقول: جاء زيد يركض أي راكضاً؛ أي لا تعط شيئاً مقدّراً أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه. وقرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو رديء؛ لأنه ليس بجواب. ويجوز أن يكون بدلاً من «تَمْنُنْ» كأنه قال: لا تستكثر. وأنكره أبو حاتم وقال: لأن المنّ ليس بالاستكثار فيبدل منه. ويحتمل أن يكون سكن تخفيفاً كعَضْد. أو أن يعتبر حال الوقف. وقرأ الأعمش ويحيـى «تَسْتَكْثَرِ» بالنصب، تَوَهُّمَ لام كي، كأنه قال: ولا تمنن لتستكثر. وقيل: هو بإضمار «أن» كقوله:

أَلاَ أَيُّهَـذَا الزَّاجِـري أَحْضُـرُ الـوَغَـى

ويؤيده قراءة ٱبن مسعود «وَلاَ تَمْنُنْ أَن تَسْتَكْثِر». قال الكسائيّ: فإذا حذف «أن» رفع، وكان المعنى واحداً. وقد يكون المنّ بمعنى التعداد على المنعم عليه بالنعم، فيرجع إلى القول الثاني، ويَعضُده قوله تعالى: { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } وقد يكون مراداً في هذه الآية. والله أعلم.