التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ
٢٦
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
٢٧
وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ
٢٨
وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ
٢٩
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ
٣٠
-القيامة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ } «كَلاَّ» رَدْع وزَجْر؛ أي بعيد أن يؤمن الكافر بيوم القيامة؛ ثم ٱستأنف فقال: { إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ } أي بلغت النفس أو الروح التراقي؛ فأخبر عما لم يجر له ذكر، لعلم المخاطب به؛ كقوله تعالى: { { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } [صۤ: 32]، وقوله تعالى: { { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } [الواقعة: 83] وقد تقدّم. وقيل: «كَلاَّ» معناه حقاً؛ أي حقًّا أن المساق إلى الله «إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ» أي إذا ٱرتقت النفس إلى التراقي. وكان ٱبن عباس يقول: إذا بلغت نفس الكافر التراقي. والتراقي جمع تَرْقُوة وهي العظام المكتنفة لنُقْرة النَّحر، وهو مقدّم الحلق من أعلى الصدر، موضع الحَشْرجة؛ قال دُرَيْد بن الصِّمّة.

ورُبَّ عَظِيمةٍ دافَعْتَ عَنْهُمْوقَدْ بَلَغَتْ نُفُوسُهُمُ التَّرَاقِي

وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي، والمقصود تذكيرهم شدّة الحال عند نزول الموت.

قوله تعالى: { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } ٱختُلف فيه؛ فقيل: هو من الرقية؛ عن ٱبن عباس وعِكرمة وغيرهما. روى سِمَاك عن عِكرمة قال: مَن راقٍ يَرْقِي: أي يَشْفِي. وروى ميمون بن مِهران عن ٱبن عباس: أي هل من طبيب يَشْفِيه؛ وقاله أبو قِلابة وقتادة؛ وقال الشاعر:

هَلْ لِلْفَتَى مِنْ بَناتِ الدَّهْر مِنْ وَاقِأَمْ هَلْ لَه مِنْ حِمَام الْمَوْتِ مِنْ رَاقِ

وكان هذا على وجه الاستبعاد واليأس؛ أي من يقدر أن يَرْقِيَ من الموت. وعن ٱبن عباس أيضاً وأبي الجوزاء أنه من رَقِيَ يَرْقَى: إذا صَعِدَ، والمعنى: من يَرقَى بروحه إلى السماء؟ أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: إن مَلَك الموت يقول مَن راقٍ؟ أي من يَرْقَى بهذه النفس؛ وذلك أن نفس الكافر تكره الملائكة قربها، فيقول ملَكَ الموت: يا فلان ٱصعد بها. وأظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى: { مَنْ رَاقٍ } واللام في قوله: «بَلْ رَانَ» لئلا يشبه مَرَّاق وهو بائع المَرْقة، وبَرَّان في تثنية البرّ. والصحيح ترك الإظهار، وكسرة القاف في { مَنْ رَاقٍ } وفتحة النون في «بَلْ رَانَ» تكفي في زوالِ اللبس. وأمثل مما ذُكِر: قصد الوقف على «مَنْ» و«بَلْ»، فأظهرهما؛ قاله القشيريّ.

قوله تعالى: { وَظَنَّ } أي أيقن الإنسان { أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ } أي فراق الدنيا والأهل والمال والولد، وذلك حين عاين الملائكة. وقال الشاعر:

فرَاقٌ ليس يُشبهُهُ فِرَاقُقد ٱنقطع الرجاءُ عن التَّلاَقِ

{ وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } أي فٱتصلت الشدّة بالشدّة؛ شدّة آخر الدنيا بشدة أوّل الآخرة؛ قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. وقال الشعبي وغيره: المعنى ٱلتفت ساقا الإنسان عند الموت من شدّة الكرب. وقال قتادة: أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى. وقال سعيد بن المسيِّب والحسن أيضاً: هما ساقا الإنسان إذا التفّتا في الكفن. وقال زيد بن أسلم: ٱلتفت ساق الكفن بساق الميت. وقال الحسن أيضاً: ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه، ولقد كان عليهما جوّالاً. قال النحاس: القول الأوّل أحسنها. وروى عليّ بن أبي طلحة عن ٱبن عباس: { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } قال: آخرَ يوم من الدنيا وأوّل يوم من الآخرة، فتلتقي الشدّة بالشدّة إلا منرحمه الله ؛ أي شدّة كرب الموت بشدّة هول المطلع؛ والدليل على هذا قوله تعالى: { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ } وقال مجاهد: ببلاء ببلاء. يقول: تتابعت عليه الشدائد. وقال الضحاك وٱبن زيد: ٱجتمع عليه أمران شديدان: الناس يُجهِّزون جسده، والملائكة يُجهِّزون رُوحه، والعرب لا تذكر الساق إلا في المِحن والشدائد العظام؛ ومنه قولهم: قامت الدنيا على ساق، وقامت الحرب على ساق. قال الشاعر:

وقامِت الحربُ بـنا على سـاق

وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة { نۤ وَٱلْقَلَمِ }. وقال قوم: الكافر تُعَذِّب روحه عند خروج نفسه، فهذه الساق الأولى، ثم يكون بعدهما ساق البعث وشدائده: { إِلَىٰ رَبِّكَ } أي إلى خالقك { يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة { ٱلْمَسَاقُ } أي المرجع. وفي بعض التفاسير قال: يسوقه مَلَكه الذي كان يحفظ عليه السيئات. والمَسَاق: المصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول.