التفاسير

< >
عرض

فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ
٣١
وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
٣٢
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ
٣٣
أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٤
ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ
٣٥
-القيامة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ } أي لم يصدّق أبو جهل ولم يصلّ. وقيل: يرجع هذا إلى الإنسان في أوّل السورة، وهو ٱسم جنس. والأوّل قول ٱبن عباس. أي لم يصدّق بالرسالة «وَلاَ صَلَّى» ودعا لربِّه، وصلَّى على رسوله. وقال قتادة: فلا صدّق بكتاب الله، ولا صلَّى لله. وقيل: ولا صدّق بمال له، ذخراً له عند الله، ولا صلَّى الصلوات التي أمره الله بها. وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي: «لاَ» بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره؛ تقول العرب: لا عبدُ الله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا مُحْسِن حتى يقال ولا مُجْمِل، وقوله تعالى: { { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } [البلد: 11] ليس من هذا القبيل؛ لأن معناه أفلا ٱقتحم؛ أي فهلا ٱقتحم، فحذف ألف الاستفهام. وقال الأخفش: { فَلاَ صَدَّقَ } أي لم يصدّق؛ كقوله: { فَلاَ ٱقتَحَمَ } أي لم يقتحم، ولم يشترط أن يُعْقِبه بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي لم يذهب، فحرف النفي ينفي الماضي كما ينفي المستقبل؛ ومنه قول زهير:

فَلاَ هُوَ أَبْـدَاهَا وَلَمْ يَتَقَـدّمِ

قوله تعالى: { وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } أي كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ } أي يتبختر، ٱفتخاراً بذلك؛ قاله مجاهد وغيره. مجاهد: المراد به أبو جهل. وقيل: «يَتَمَطَّى» من المَطَا وهو الظَّهْر، والمعنى يَلْوِي مَطَاه. وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدّد من التكسّل والتثاقل، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق؛ فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف، والتمطي يدل على قلة الاكتراث، وهو التمدّد، كأنه يمدّ ظهره ويلويه من التبختر. والمَطِيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض؛ لأنه يتمطى أي يتمدّد؛ وفي الخبر: "إذا مشت أمّتي المُطَيْطَاءَ وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم" . والمُطَيْطاء: التبختر ومدّ اليدين في المشي.

قوله تعالى: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ }: تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي فهو وعيد أربعة لأربعة؛ كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهِل بربّه فقال: { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّىٰ * وَلَـٰكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } أي لا صدّق رسول الله، ولا وقف بين يديّ فصلّى، ولكن كذّب رسولي، وتولّى عن التصلية بين يديّ. فتَرْك التصديق خَصْلة، والتكذيب خَصْلة، وترك الصلاة خَصْلة، والتولي عن الله تعالى خَصْلة؛ فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربعة. والله أعلم. لا يقال: فإن قوله { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ } خَصْلَة خامسة؛ فإنّا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولّي، فأخبر عنها. وذلك بَيِّنٌ في قول قتادة على ما نذكره. وقيل: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد ذات يوم، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، مما يلي باب بني مخزوم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فهزّه مرَّةً أو مرتين ثم قال: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى فقال له أبو جهل: أتهددُني؟ فوالله إني لأَعَزُّ أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال لأبي جهل" . وهي كلمة وعيد. قال الشاعر:

فَأَوْلَى ثم أَوْلَى ثم أَوْلَىوهَلْ لِلدَّرِّ يُحْلَبُ من مَرَدِّ

قال قتادة: "أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر، فأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده فقال: { أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ * ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ فَأَوْلَىٰ }. فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئاً، إني لأعزُّ مَنْ بين جبليها. فلما كان يوم بَدْر أشرف على المسلمين فقال: لا يُعْبَد اللَّهُ بعد هذا اليوم أبداً. فضرب الله عنقه، وقتله شر قِتْلة" . وقيل: معناه: الويل لك؛ ومنه قول الخنساء:

هَمَمْتُ بنفسيَ كُلَّ الهُمُومِفَأْوْلَى لِنَفْسِيَ أَوْلَى لَهَا
سَأَحْمِلُ نفسي على آلةٍفإِمَّا عليها وإِمَّا لَهَا

الآلة: الحالة، والآلة: السرير أيضاً الذي يحمل عليه الميت؛ وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب؛ كأنه قيل: أَوْيَل، ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك حيًّا، والويل لك ميتاً، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار؛ وهذا التكرير كما قال:

لَكَ الْوَيْـلاَتُ إِنَّـكَ مُرْجِلِـي

أي لك الويل، ثم الويل، ثم الويل، وضعف هذا القول. وقيل: معناه الذم لك أولى من تركه، إلا أنه كثير في الكلام فحذف. وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب. وقال أبو العباس أحمد بن يحيـى: قال الأصمعي: «أَوْلَى» في كلام العرب معناه مُقَاربة الهلاك، كأنه يقول: قد وَلِيتَ الهلاك، قد دَانَيْتَ الهلاكَ؛ وأصله من الوَلْي، وهو القُرْب؛ قال الله تعالى: { { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ ٱلْكُفَّارِ } [التوبة: 123] أي يَقرُبُون منكم؛ وأنشد الأصمعي:

وَأَوْلَى أن يكون له الولاَءُ

أي قارب أن يكون له؛ وأنشد أيضاً:

أَوْلَـى لِمَنْ هاجَتْ لَهُ أْنْ يَكْمَدَا

أي قددنا صاحبها من الكمد. وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعيّ ويقول: ليس أحد يفسّر كتفسيرالأصمعي. النحاس: العرب تقول أولى لكَ: كِدتَ تَهلِك ثم أفْلَت، وكان تقديره أَوْلَى لك وأولى بك الهلكة. المهدويّ قال: ولا تكون أوْلَى (أَفْعَل منك)، وتكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: الوعيد أولى له من غيره؛ لأن أبا زيد قد حكى: أَوْلاَةُ الآن: إذا أوْعَدُوا. فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك. و«لَكَ» خبر عن «أَوْلَى». ولم ينصرف «أَوْلَى» لأنه صار علماً للوعيد، فصار كرجل ٱسمه أحمد. وقيل: التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السَّيىء الأوّل، ثم على الثاني، والثالث، والرابع، كما تقدّم.