التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ
٧
وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ
٨
وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ
٩
يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ
١٠
كَلاَّ لاَ وَزَرَ
١١
إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ
١٢
يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
١٣
-القيامة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } قرأ نافع وأبان عن عاصم «بَرَقَ» بفتح الراء، معناه: لمع بصره من شدّة شخوصه، فتراه لا يَطرِف. قال مجاهد وغيره: هذا عند الموت. وقال الحسن: هذا يوم القيامة. وقال فيه معنى الجواب عما سأل عنه الإنسان كأنه يوم القيامة { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ * وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ }. والباقون بالكسر «بَرِقَ» ومعناه: تحيّر فلم يَطرِف؛ قاله أبو عمرو والزجاج وغيرهما. قال ذو الرمّة:

ولو أنّ لُقْمَانَ الحكيم تَعَرَّضَتْلِعينيهِ مَيٌّ سافِراً كاد يَبْرَقُ

الفرّاء والخليل: «برِقَ» بالكسر: فَزِع وبُهِت وتَحيَّر. والعرب تقول للإنسان المتحيِّر المبهوت: قد بَرِق فهو برِقٌ؛ وأنشد الفرّاء:

فنَفْسَكَ فٱنْعَ ولا تنَعَنِيودَاوِ الكُلُومَ ولا تَبْرِقِ

أي لا تَفزَع من كثرة الكُلُوم التي بك. وقيل: برَقَ يَبرُق بالفتح: شقّ عينيه وفتحهما. قاله أبو عبيدة؛ وأنشد قول الكلابيّ:

لما أتانِي ٱبنُ عُمَيرٍ راغِباًأعطيتُه عِيساً صِهاباً فبَرقَ

أي فتح عينيه. وقيل: إن كسر الراء وفتحها لغتان بمعنًى.

قوله تعالى: { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ } أي ذهب ضوءه. والخسوف في الدنيا إلى ٱنجلاء، بخلاف الآخرة، فإنه لا يعود ضوءه. ويحتمل أن يكون بمعنى غاب؛ ومنه قوله تعالى: { { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ } [القصص: 81] وقرأ ٱبن أبي إسحاق وعيسى والأعرج: «وَخُسِفَ الْقَمَر» بضم الخاء وكسر السين يدل عليه «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ». وقال أبو حاتم محمد بن إدريس: إذا ذهب بعضه فهو الكسوف، وإذا ذهب كله فهو الخسوف. { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } أي جمع بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه؛ قاله الفراء والزجاج. قال الفراء: ولم يقل جمعت؛ لأن المعنى جمع بينهما. وقال أبو عبيدة: هو على تغليب المذكر. وقال الكسائيّ: هو محمول على المعنى، كأنه قال الضوءان. المبرد: التأنيث غير حقيقي. وقال ٱبن عباس وٱبن مسعود: جمع بينهما أي قرن بينهما في طلوعهما من المغرب أسودين مُكوَّرين مظلمين مُقرَنَين كأنهما ثوران عَقيران. وقد مضى الحديث بهذا المعنى في آخر سورة «الأنعام». وفي قراءة عبد الله «وَجُمِعَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ» وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى. وقال على وٱبن عباس: يجعلان في نور الحجب. وقد يجمعان في نار جهنم؛ لأنهما قد عبِدَا من دون الله ولا تكون النار عذاباً لهما لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم. وفي مسند أبي داود الطيالسيّ، عن يزيد الرقاشيّ، عن أنس بن مالك يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر ثوران عَقيران في النار" وقيل: هذا الجمع أنهما يجتمعان ولا يفترقان، ويقربان من الناس، فيلحقهم العرق لشدّة الحر؛ فكأن المعنى يجمع حرهما عليهم. وقيل: يجمع الشمس والقمر، فلا يكون ثَمَّ تعاقب ليل ولا نهار.

قوله تعالى: { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ }؟ أي يقول ٱبن آدم، ويقال: أبو جهل؛ أي أين المهرب؟ قال الشاعر:

أين المفرُّ والكِباشُ تَنتطِحْوأيُّ كَبْشٍ حاد عنها يَفْتَضِحْ

الماورديّ: ويحتمل وجهين: أحدهما { أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } من الله ٱستحياء منه. الثاني { أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } من جهنم حذراً منها. ويحتمل هذا القول من الإنسان وجهين: أحدهما ـ أن يكون من الكافر خاصة في عَرْضة القيامة دون المؤمن؛ لثقة المؤمن ببشرى ربه. الثاني ـ أن يكون من قول المؤمن والكافر عند قيام الساعة لهول ما شاهدوا منها. وقراءة العامة «الْمَفَرُّ» بفتح الفاء وٱختاره أبو عبيدة وأبو حاتم؛ لأنه مصدر. وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة بكسر الفاء مع فتح الميم؛ قال الكسائي: هما لغتان مثل مَدَبّ ومَدِبّ، ومَصَحّ ومَصِحّ. وعن الزهريّ بكسر الميم وفتح الفاء. المهدويّ: من فتح الميم والفاء من «المفر» فهو مصدر بمعنى الفرار، ومن فتح الميم وكسر الفاء فهو الموضع الذي يفرّ إليه. ومن كسر الميم وفتح الفاء فهو الإنسان الجيّد الفرار؛ فالمعنى أين الإنسان الجيّد الفرار ولن ينجو مع ذلك.

قلت: ومنه قول ٱمرىء القيس:

مِكَـرّ مِفَـرّ مُقْبِل مُدْبِـرٍ مَعـاً

يريد أنه حسن الكرّ والفرّ جَيِّدَه. { كَلاَّ } أي لا مفرّ فـ«ـكَلاَّ» ردٌّ وهو من قول الله تعالى، ثم فسر هذا الردّ فقال: { لاَ وَزَرَ } أي لا ملجأ من النار. وكان ٱبن مسعود يقول: لا حِصن. وكان الحسن يقول: لا جبل. وٱبن عباس يقول: لا ملجأ. وٱبن جُبير: لا محيص ولا منعة. المعنى في ذلك كله واحد. والوَزَر في اللغة: ما يلجأ إليه من حِصن أو جبل أو غيرهما؛ قال الشاعر:

لَعَمْرِيَ ما لِلفتى مِن وَزَرْمِنَ المَوتِ يُدْرِكُه والكِبَرْ

قال السُّديّ: كانوا في الدنيا إذا فزِعوا تحصّنوا في الجبال، فقال الله لهم: لاَ وَزَرَ يعصمكم يومئذ منّي؛ قال طرفة:

وَلَقَدْ تَعْلَمُ بَكْرٌ أَنَّنَافاضِلُوا الرَّأْيِ وَفِي الرَّوْعِ وَزَرْ

أي ملجأ للخائف. ويروى: وَقْرٌ. { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } أي المنتهَى؛ قاله قتادة. نظيره: { { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [النجم: 42]. وقال ٱبن مسعود: إلى ربك المصير والمرجع. قيل: أي المستقرّ في الآخرة حيث يقرّه الله تعالى؛ إذ هو الحاكم بينهم. وقيل: إن «كَلاَّ» من قول الإنسان لنفسه إذا علم أنه ليس له مفرّ قال لنفسه: { كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ }.

قوله تعالى: { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ } أي يخبر ٱبن آدم بَرًّا كان أو فاجراً { بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ }: أي بما أسلف من عمل سَيّىء أو صالح، أو أخَّر من سنّة سيّئة أو صالحة يُعْمَل بها بعده؛ قاله ٱبن عباس وٱبن مسعود. وروى منصور عن مجاهد قال: ينبأ أوّل عمله وآخره. وقاله النخَعيّ. وقال ٱبن عباس أيضاً: أي بما قدّم من المعصية، وأخَّر من الطاعة. وهو قول قتادة. وقال ٱبن زيد: «بِمَا قَدَّمَ» من أمواله لنفسه «وَأَخَّرَ»: خلّف للورثة. وقال الضحاك: ينبأ بما قدّم من فرض، وأخَّر من فرض. قال القشيريّ: وهذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال. ويجوز أن يكون عند الموت.

قلت: والأوّل أظهر؛ لما خرجه ٱبن ماجه في سننه من حديث الزهريّ، حدثني أبو عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ مما يَلْحَق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته عِلماً علّمه ونَشَره، وولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورّثه أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته" وخرجه أبو نَعيم الحافظ بمعناه من حديث قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبع يجري أجرهنّ للعبد بعد موته وهو في قبره: من علّم علماً أو أجرى نهراً أو حفر بئراً أو غرس نخلاً أو بنى مسجداً أو وَرَّثَ مصحفاً أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته" فقوله: "بعد موته وهو في قبره" نصَّ على أن ذلك لا يكون عند الموت، وإنما يخبر بجميع ذلك عند وزن عمله، وإن كان يبشَّر بذلك في قبره. ودل على هذا أيضاً قوله الحقّ: { { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13] وقوله تعالى: { { وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النمل: 25] وهذا لا يكون إلا في الآخرة بعد وزن الأعمال. والله أعلم.

وفي الصحيح: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنةً كان له أجرها وأجر من عمِل بها بعده، من غير أن يُنقَص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"